الحياة في هذه الدنيا يمكن أن تتحول إلى روضة خضراء من حسن التعامل، وصفاء النفس، وكرم الأخلاق، وأن تصبح كالواحة الجميلة التي تحتضن أزهاراً مختلفة ذات أشذاء متنوعة أخاذة، وألوان بديعة زاهية. الحياة في هذه الدنيا يمكن أن تكون جميلة حينما يعرف الناس فيها كيف يطهِّرون قلوبهم من الشك والشرك والنفاق، ونية السوء، ويترفعون عن دنايا الصفات، وسفاسف الأمور، ويستطيعون أن يتخلصوا من روح التعسف والظلم، والقهر، والطمع، والتعادي من أجل توافه الأمور. حينما ازدهرت هذه الزاوية (دفق قلم) بمقال سابق بعنوان (بيوتنا والفراشات الملونة) وجدت من تفاعُل كثير من القراء والقارئات ما أشعرني بأن هنالك إحساساً سائداً بقسوة الحياة المعاصرة، وماديتها، وسوء التعامل فيها، وبُعْد الهُوَّة بين أهلها وبين الهدوء وراحة الضمير. قال لي أحدهم، كما قالت لي إحداهن: أين أنت يا أبا أسامة من حقيقة الواقع الذي يعيشه الناس؟ يبدو أنك مكبل بالمثالية و(الشاعرية) التي تحول بينك وبين رؤية الحشرات المؤذية التي تملأ أجواء البيوت في هذا العصر المليء بالمفاجآت؟ أنت تتكلم عن فراشات ملونة تطير في أجواء العوائل والأسر، فبالله أخبرنا أين تقع تلك البيوت من واقع مجتمعاتنا اليوم؟ وقالت لي إحداهن: شكراً لك على هذا الطرح الأدبي الجميل، وعلى تشبيه أجواء التفاهم، وتبادل الكلمات الجميلة بين أفراد الأسرة بالفراشات الملونة، وحتى أعطيك مثالاً واقعياً يسرني أن أروي لك تجربتي مع زوجي وأولادي وأهلي وأهل زوجي، فقد عزمت منذ سنوات على عدم استخدام كلمات مؤذية للمشاعر، وأخذت أدرب نفسي بل أروضها على ذلك ترويضاً، ووضعت برنامج عمل بدأت أنفذه بالتدريج؛ فرسمت لنفسي خطة تتضمن هدفاً وحددت لتنفيذ تلك الخطة وتحقيق ذلك الهدف مدة زمنية، فكان أول هدف رسمته البعد عن (اللعن) بكل أساليبه وعن شتم أي أحد من الصغار بعبارات (كلب، حمار، نذل، خبيث، شيطان، مهبول...) وغيرها من الكلمات التي تشيع - مع بالغ الأسف - بين الناس، وقد كان نجاحي مع نفسي في هذه التجربة باهراً - والحمد لله - وقد انعكس هذا النجاح بصورة إيجابية كبيرة على أفراد أسرتي جميعهم، وأصبحت الكلمات النابية مستنكرة من الجميع، مرفوضة من الجميع حينما تجري على بعض الألسنة في ساعة الغضب والانفعال. أشكرك على هذا التشبيه الجميل بالفراشات الملونة؛ لأنه تشبيه دقيق لتلك الكلمات البديعة التي يتناقلها أفراد الأسرة الواحدة. وأقول: الحمد لله الذي هيأ هذه التجربة الواقعية التي يمكن أن تكون جواباً واضحاً على من ظن الحديث في هذا الموضوع من باب (المثالية) أو (الشاعرية) التي لا نصيب لها من واقع الحياة. أيها الأحبة ميزة تعاليم ديننا أنها تلامس واقع الحياة، وأن تطبيقها ممكن، بدليل أنها طُبِّقت في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام أجمل تطبيق. كما طُبِّقت في حياة كثير من البشر الذين يحبون للناس ما يحبون لأنفسهم، والذين لا يستسلمون للغضب والانفعال وسوء الظن وهوى النفس الأمارة بالسوء ووسوسة الشيطان. نعم، إن بإمكاننا أن نجعل حياتنا كلها، داخل منازلنا وخارجها، واحة من التعامل الجميل، نسعد برؤية فراشاتها الملونة التي تتنقل بين أزهارها وأشجارها. إشارة : هَبْني بشارةَ خيرٍ، حين أسمعها=أرى الحياةَ بعينِ الحبِّ سَلْسَالَا