كان لزاماً أن أصل إلى مدينة بنيدروم عن طريق اليكانتا كنت خلال الرحلة أحدث النفس عن غرابة هذه المدينة الأسبانية التي لا يوجد بها مطار بينما حجز الفندق يؤكد لي بأنني سأكون من نزلاء الدور الثاني والأربعين به. اتسعت مساحة الدهشة لدي عند رؤيتي أبراج هذه المدينة الشاهقة وخلو شوارعها من الحركة والضجيج الذي يلائم كثافة أبنيتها كذلك نظافة شواطئها من كل ما يعكر صفو المتأمل في سويعات الأصيل الدافئة ومع كل ما هو غريب في هذه المدينة تنحو الدهشة نحو الحدة فقد كان من الملاحظ بشكل جلي أن السواد الأعظم من سكان هذه المدينة هم ممن تجاوزوا الستين حولاً إلا أن حيرتي لم تدم طويلاً فقد تبددت عندما أفشى لي عمدة هذه المدينة سرها الساحر حين قال بأن هذه المدينة القابعة على ضفاف المتوسط هي مدينة المتقاعدين مجمل سكانها كما ترى هم ممن تقدم بهم العمر وفي حاجة إلى السكينة والدعه والبعد عن ضجيج الحياة الذي يبعث على التوتر ولا يقتصر نزلائها على الأسبان فحسب بل يأتيها الزوار من أنحاء أوربا طلباً لما تراه من محفزات الحياة الهادئة بعد جهد العمل الشاق كما أنها تسجل أدنى معدلات الجريمة والمخالفات المدنية. حينها تذكرت أيها الساده والسيدات أننا قد بنينا المدن الصناعية والأقتصادية والصاخبة التي تعج بالحركة وكل متغيرات العصر . تذكرت أن البناه الذين خلدوا إلى عالم التقاعد هم في حاجة إلى محفزات الحياة الهادئة المطمئنة التي لا يفسدها مخالفات مرورية من شباب طائش وشواطئ حالمة لا يقطع صمتها وهدوئها عبث العابثين في حاجة إلى أن يأخذوا حقهم البيولوجي في الحصول على أوكسجين نقي من عوادم السيارات المخالفة لقواعد السلامة البيئية. وأن يتمكنوا من إقامة علاقات أجتماعية تخلوا من الحديث عن سوق الأسهم والأزمات الاقتصادية العالمية التي تلوث مساحة الهدوء والسكينة التي ينشدونها. إننا بحاجة إلى أن يكون بكل مدينة من مدننا ضاحية سكانها المتقاعدون، تنعدم الحركة في شوارعها عقب صلاة العشاء وتدب في شرايينها الحياة مع بزوغ الفجر الجديد، ترى نزلائها وكأنهم اعتصموا عن ركوب السيارات فانطلقوا في طرقاتها سيراً على الأقدام، إنها أمنية كل مواطن ألقت به الحياة إلى أحضان التقاعد والشيخوخة، فمن يرى هذا الحلم ترفاً الآن، لدي القناعة بأنه سيرى ضرورته عندما يترجل عن آلة العمل ويدلف إلى عالم المتقاعدين .