عندما يتحدث الغرب عن حرية الرأي ، ينكر كثير ممن يأتم بخطابه الاعلامي ذاكرته، وينزع في كل مناسبة جدلية الى تصدير قناعاته بتلك الرؤى إلى الآخرين، فيمنح الغرب فيها ناصية الحق ويضع العرب والمسلمين في الموقف المقابل، وتجلت تلك الكوامن الموبوءة اثناء الدفاع عن جرائم المعتدين على مشاعر المسلمين، عندما خرج اشقاهم الذي علمهم السحر برسومات كاريكاتورية تسيء الى الذات النبوية للمصطفى صلى الله عليه وسلم، لكن الحقيقة تأبى إلا أن تبرز الوجه الآخر للحرية المزعومة للكلمة والريشة التي كانت بالامس رمزا من رموز الثقافة الأوروبية امام احتجاجات المسلمين ، فقد استطاع الفنان التشيكي ديفيد كيرني الذي تتولى بلاده حالياً رئاسة الاتحاد الاوروبي ان يطلق الحقيقة من عقالها عندما وضع في الردهة الرئيسية لمقر الاتحاد الأوروبي مجسماً يصور مظاهر الحياة في بعض البلدان الأوروبية، فأظهر اسبانيا بلداً غمرته طفرة الانشاءات المعمارية ، وفرنسا بلداً للاضطرابات المتواترة، وايطاليا مأوى للاعبي كرة القدم ، وهولندا بلداً للجسور ومآذن المساجد، ولم يتجاوز كيرني الحقيقة في مجسمه ، لكن الانا الاوروبي المتورم لا يمكنه السكون ، فيفجر ازمة دبلوماسية أوروبية عاصفة داخل اروقة مقر الاتحاد بسبب هذا المجسم، وامام تدفق الاحتجاجات الأوروبية على هذا العمل الفني الساخر طفق التشيكيون يدافعون عن حرية الفن التشيكي التي يستمدها بزعمهم من الحريات العامة للمجتمع التشيكي ، سبحان الذي يغير ولا يتغير فمن كان بالامس يدافع عن حرية اشقياء الدانمارك اضحى اليوم في موقف المناهضة لتلك الحرية الهلامية لانها لامست شأنا من شؤون حياته ووطأت حمى ذاته ، إنها اليوم في نظرهم سلوك يجرمه القانون وتأنف منه الثقافة ، لقد استطاع هذا الكيرني الشقي في نظر العيون الزرقاء ان يوقظ الحقيقة المضطهدة في أقبية الثقافة الاوروبية ويذيب الثلج عن مفردات الانا الأوروبي ، فهذه الازمة بسبب رسومات عكست بعض مظاهر الحياة الاوروبية المعاصرة ولم تتناول المقدسات ولا الرموز الدينية واثير حولها ما أثير من المد والجزر السياسي ، ومن كان بالامس في جانب الحرية الفنية لأشقياء الدانمارك لم يقف اليوم إلى جانب حرية كيرني الفنية ، فقط حكومته التي وجدت نفسها بدافع وطني في مواجهة اصوات الاستنكار الأوروبي لفعلته التي لم تتسع قواميس الحرية الأوروبية لمفرداتها ، فهل يفيق نُفاخ ابواق الحرية الموجهة من سباتهم خارج مساحة المنطق، ويعون الواقع ومتغيراته وان ما يؤلم المرء فإنه بالضرورة يؤلم غيره ، وما يقتحم إطار حريته هو ما ينبذه الآخرون منه ، ولا شك أن حرية الكلمة والقلم والريشة مطلب حضاري ومنبت للابداع لا يمكن مصادرته ، لكنها عندما تلامس اذية الآخرين تصبح اعتداء يجب مقاومته ، فالحرية المطلقة مفسدة مطلقة.