من الامثلة على عدم انطباق التوقعات على الواقع الذي نجده في عمل ما مثل واضح في عمل شعري طويل كتبه وائل نجد وسماه ملحمة شعرية فلسفية. وقد جاء العنوان المرنب على الصورة التالية "الفية ابن نجد..ملحمة فلسفية" وفوق كل ذلك اي في اعلى صفحة غلاف الكتاب نقرأ "ابعد من السماء والارض." الابيات الشعرية الالف جاءت في 110 صفحات من القطع الكبير وصدرت عن "دار الحداثة" في بيروت. العمل اخذ اسمه من "ألفية ابن مالك" التي قام صاحبها بنظم 1000 بيت من الشعر ضمنها قواعد النحو العربي. وكما لم ييسر ابن مالك قواعد العربية ولم يرغب الناس في تعلمها بل جل ما قام به هو اظهار قدرة على النظم الشعري بنفس طويل فان ابن نجد -ولعل الاسم رمزي- قد فعل الامر نفسه. فوائل نجد في عمله هذا لم يثبت سوى قدرته على النظم الطويل النفس اذ انه لم يقدم عملا شعريا مميزا ولا اضاف شيئا الى الفكر الفلسفي. وكذلك لم يكن للالفية هذه علاقة بالملحمة وفقا لتحديدها الكلاسيكي سوى كونها منظومة وطويلة. وجاء عمله معرضا للفلسفات والاراء الفكرية والنظريات المختلفة وركز على الشأن الجنسي في كلام سافر. اعتمد نظام الرباعيات من حيث عدد الابيات في كل مقطع شعري. واذا كان بعض ابياته يذكرنا بشعراء كلاسيكيين كبار فان بنية القصيدة ومحتوياتها لم تخرج بعيدا عن قصيدة ايليا ابي ماضي الشهيرة "الطلاسم" من حيث عرضه للاراء االمختلفة في الحياة والدين والفلسفة ثم الانتهاء عمليا الى "لا أدرية" كتلك التي وصل اليها ابو ماضي. يسخر الشاعر من الاديان كلها ومن الفلسفات والنظريات ونادرا ما يعلن قبوله برأي من الاراء لكنه يقول لنا انه في تحرق دائم الى المعرفة. يكتب في ترتيب منطقي وتساؤلات فكرية عميقة لكنها ليست على قدر كاف من الجدة بل تأتي تكرارا لما قيل قديما وحديثا دون ان نلمح الا نادرا موقفا مميزا او زاوية خاصة. انها اعادة لكثير مما تعلمناه وقرأناه وفي احيان كثيرة اغلقنا عليه ابواب الذاكرة وقد جاء يطرحها علينا كأنها شؤون جديدة والحجة عنده هي انها لم تلق اجوبة شافية بعد. لم يضف شيئا الى الاجوبة كما انه لم يجدد في الاسئلة فجاءت كما عهدناها. لعل ميزته الاولى هي ان اسئلته واجوبته جاءت صريحة الى قصى الحدود والى درجة ربما لم يجرؤ احد غيره على الاتيان بمثلها. ولعل له في مهاجمة كل الاديان ما يوحي له بانه كان منصفا وموضوعيا دون تمييز بينها. بدأ الشاعر بقصيدة عنوانها "استهلال" تظهر قدرة على النظم وعلى الاتيان بشعر جيد لو غمس ريشته في مشاعره الخاصة كما قيل قديما. لقد غرسها عوضا عن ذلك في افكار الاخرين. قال فيها "للفكر شمس وللاشعار معيار وللمشاعر اقبال وادبار هذا كتاب امرىء دكت صراحته صروح اوهامه فائتجت النار القى القناع بعصر فاض اقنعة من موجها دفة البحار تحتار القاه مقتنعا ان القناعة لا تفيد ما لم يكن للبوح اعصار." وعلى غرار اجواء المتنبي في قوله "كم قد قتلت وكم قد مت عندكم ثم انتفضت فزال الموت والكفن " ينهي وائل نجد القصيدة بخطابية مدوية فيقول "قد عشت حينا بعار الصمت ملتحفا/ ثم انفجرت فطار الصمت والعار/ انا الذي مزق التفكير مبسمه/ في القلب حرب لها في العقل مسعار/ مسعارها صاغ بالابيات فلسفتي/فسلمتني الى النقاد اشعار." اما الاهداء ففيه يقول لنا انه هاجم المعتقدات لكنه ما زال يبحث عن الحقائق كي تستكين نفسه اليها "هذا العمل ليس الا تعبيرا اوليا عما يدور في خلجات نفسي الحائرة اهديه لكل الناس." انه ينظم الافكار وقليلا ما يكتب المشاعر الحارة شعرا ولربما كان ذلك بسبب اختياره الامور الفكرية التي يناقشها ببرودة ولو شعرا. وتبدأ الملحمة وفيها يقول "لست معتوها على اوراقه يقضي فراغه بل اريبا دق بالفصحى نواقيس البلاغة طبخ الفكر بقدر الشعر طبخا ثم صاغه في شروح هي للروح طعام وشراب." ولا يترك الفرصة تمر دون دون الحديث الجنسي وتطبيق الجنس على عملية الكتابة او العكس فيقول مذكرا في القسم الاخير بسبب تسمية حي بن يقظان بهذا الاسم "يا قضيب الشعر هيا قم فقد طاب النكاح لابنة العقل التي كانت بسجن الانبطاح فاذا ما جاء للحمل بمولود مجال سمه نور بن حر الفكر ذي العقل المهاب." ويضيف قائلا "واذا المولود انثى سمها شمس الطهارة علها تشرق يوما في سماوات الدعارة ليرى الداعر باسم الدين انوار الحضارة ويرى الفاجر باسم الله وجه الانقلاب." وينتقل الى فيلسوف المعرة ابي العلاء واسئلته فيقول "فار تفكيري فصاحت في شراييني الدماء/ لوحة الاديان هل خطت باقلام السماء/ ام كما قال المعري بمكر ودهاء/ ام هو الحق بدين الارض لا دين الكتاب." ويستمر على هذا المنوال وكأنه لا ينقصه الا لازمة ابي ماضي "لست أدري" ويطرح سؤالا يذكرنا بقول الرسول محمد ما معناه ان الانسان يولد كصفحة بيضاء. يقول الشاعر "ايها المؤمن جدا لا تبالغ في عنادك/ افترض لو كان ميلادك في غير بلادك/ اسرة اخرى وتعويد على غير اعتيادك/ اي دين ستوالي بانتماء و انتساب.." ويمر على معتقدات الهندوس وفكرة التناسخ مبديا شكه كما يعرج على المسيحيين بالشك نفسه وكذلك على اليهود فكأنه ابو العلاء يصرخ متسائلا " كل يشيع دينه يا ليت شعري ما الصحيح" ويقول وائل نجد هنا "ارأيتم كل دين يدعي وصلا بليلى/ اين ليلى اين ليلى ليت ليلى تتجلى/ ربما ليلى بتعذيب الحيارى تتسلى/ طال بحثي فمتى يرفع عن ليلى الحجاب.." الا انه يرفض الالحاد فيقول "ايها الجازم بالالحاد صرفا هل جننتا/ انت من انت لتنفي الرب والمربوب انت/ لو تأملت بربع العقل صدقا لفطنتا/ ان قيثارة ربي لحنها سحر عجاب." ويورد كثيرا من الافكار والاراء الفلسفية القديمة والحديثة العلمية ويمر على مسألة السياسة والدين فيقول مثلا "بين تسييس الديانات وتديين السياسة/ بين تتييس الاناءات وتبرير التياسة/ بين مزمار الاساطير وكابوس الرئاسة (حيوان وثني تائه وسط الرحاب." ويحذر من تسلم من يسميهم الرجعيين زمام السلطة فيقول "احذروا ان يمسك الرجعي في اوطاننا بعصا السلطة كي نخلص من احزاننا )زمرة النهي عن المعروف في ازماننا/ اقرب الامثلة الكبرى على هذا المصاب." وائل نجد يتناول امورا كثيرة بجرأة نادرة قد تكون في بعض الاحيان ضرورية جدا . الا انه في تبنيه للجدل العقلي يتخلى عن قدرة شعرية قد تكون لديه ولا يضيف للفكري شيئا ..غير الجرأة.