الكلمة بضع أحرف تخرج من فم الإنسان ثم تكتب عليه رحلة المعالي بكامل فصولها ، أو تدوّن في حياته أقسى لحظات عمره على الإطلاق . الإنسان فصول من التحدي والعنف والقوة والجبروت ، وكلمة واحدة تخرج من فمه تملكه طول أيام عمره كلها حتى يجد الخلاص منها . وأكبر دليل على خطورة الكلمة أن الإنسان يدخل دين الله تعالى الإسلام بكلمة ، ويخرج من دائرته مع سعتها بكلمة ، ويبنى بيتاً وأسرة ومجتمعاً بكلمة ، ويشل بناء بيت ويفرّق جمع أسرة بكلمة ، ويعانق الإنسان الجنة بكلمة ، ويسقط في حضيض النار بكلمة . وقد قال الله تعالى في بيان هذه الخطورة " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " وقال تعالى " وإن عليكم لحافظين . كراماً كاتبين " وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة و إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة " وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا .. قال بعض الرواة تعني قصير .. فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته . ولما قال أبو بكر لبلال بن رباح " يا بن السوداء ! " قال له النبي صلى الله عليه وسلم " إنك امرؤ فيك جاهلية " وفي حديث معاذ رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم " أوإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم " إن الكلمة التي تخرج من في الإنسان تتفاوت أثراً في تاريخ حياته ، فأعظم كلمة وأكثرها أثراً ، وأخطرها في حياة إنسان كلمة " الكفر ، والشرك " أياً كانت في مواقفها وصياغتها ومكانها وزمانها . وفي غزوة تبوك قال من خرج في صف الجهاد مازحاً : "ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء " فنزل القرآن مبلغاً لهم بالخروج من دائرة الإسلام والدخول في دائرة الكفر " قل أبا الله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " ومن خلف بغير الله تعالى فقد كفر أو أشرك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . ويأتي بعد خطورة كلمة الشرك أثراً " الفتوى " وهي كلمة وقد قرنها الله تعالى في كتابه بالشرك فقال تعالى " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا ما لا تعلمون " و قال الله تعالى " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة " وقد أبدع ابن القيم حين ذكر بأن الفتوى توقيع عن رب العالمين . ثم تتفاوت كذلك الكلمات أثراً بحسب ما يترتّب عليها من ظلم للناس في أعراضهم وأموالهم ، وقد صوّر الله تعالى أثر الكلمة الخائضة في أعراض الناس بأقبح صورة في نظر إنسان في قوله تعالى " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً " حتى قال ابن دقيق العيد " أعراض الناس حفرة من حفر النار " وذات مرة جلس النبي صلى الله عليه وسلم بعد إن كان متكئاً وهو يردد " ألا وقول الزور .. ألا وقول الزور .. ألا وقول الزور . إن كلمة واحدة من الخير لم يلق الإنسان لها ربما كانت سبباً عريضاً في توفيقه وجمع شمله واستقرار حياته ، وكلمة واحدة في المقابل من الشر لم يلق الإنسان لها بالاً كانت البوابة التي فتحت على الإنسان كل معاني الفوضى والشتات والاضطراب والديون في حياته ، وأصدق شاهد على ذلك ما قال أحد الكبار حين ركبته الديون فقال " عيّرت رجلاً بالدين فعاقبني الله تعالى بالدين بعد زمن طويل من عمري ! إن المواقف التي يُمتحن الإنسان فيها على ظهر الأرض أكثر من أن تُحصى وفي أزماننا هذه تتوسّع هذه المواقف على قدر وعي الإنسان ومعرفته بمسؤوليته بين يدي الله تعالى ، وإن الكلمة الخائضة في هذه المواقف إن لم تكن محسوبة بدقة وإلا كانت موارد الهلاك في حياة إنسان . إن كل عاقل حصيف يسمع هذه المخاطر التي تحتف بالكلمة ينبغي عليه أن يحاذر أشد الحذر من مصارع الهلاك فيها ، وينبغي أن يعلم أولاً أن العلم أمانة ، وأن قلمه أرفع من أن يجره في واقعة يخذل بها دينه أو يعارض بها منهجه . ويعلم ثانياً أن أعراض الناس حفرة من حفر النار ، ورب كلمة ثلبت مقام إنسان كتبت على قائلها لحظات الحرمان بكامل فصولها ، ولسانك أرفع من أن يخوض في قضية لم يكلفك الله تعالى أن تكون حكماً فيها . والسلامة لا يعدلها شيء . والله المستعان ، وعليه التكلان . مشعل عبد العزيز الفلاحي