تُعد المعارف والخبرات المتراكمة المتمثلة بكيفية التعامل مع الأزمات واستقصاء الأسباب التي أدت إليها، واستخلاص العبر من التجارب التي تحملها أفضل ما ينتج عن وقوع الأزمات بشتى أنواعها. وستمر الأزمة المالية العالمية الحالية كما مرّت باقي الأزمات بالبشرية، وسيتعلم بنو الإنسان منها الكثير وسيستخلصون العبر والخبرة وستخرج النظريات والكتب وتتراكم المعرفة عن هذا النوع من الأزمات. ففي العصر الحديث مرّت البشرية بأزمات اقتصادية متعددة، وكان أكبرها الكساد الكبير أو العظيم الذي وقع في ثلاثينيات القرن الماضي، وتعلم العالم منه الكثير وخرج باقتصاد أقوى واندفعت التنمية في أنحاء العالم كافة بشكل لم يسبق له مثيل. ومنذ وقوع الأزمة المالية العالمية الحالية والجدل يشتد في أنحاء العالم عن مسببات الأزمة ونتائجها وأفضل أساليب التعامل معها وسبل معالجة آثارها السلبية. وفي الوقت الحالي هناك الكثير من النتائج والعبر المستقاة من هذه الأزمة. وسيتم التطرق في هذه المقالة والمقالة المقبلة إلى بعض من العبر الاقتصادية. ولعل من أهم ما نتج عن الأزمة المالية الأخيرة هي عبرة قديمة ومعروفة لدى البشرية منذ الأزل، ألا وهي أن الاقتراض غير المسؤول والاستهانة بالمخاطر هما من أكبر الأسباب التي تقف خلف الأزمات المالية الشخصية والمؤسسية والوطنية والعالمية. فقد أدى الاقتراض غير المسؤول للأفراد والمؤسسات للمقامرة في أسواق المال إلى توليد فقاعات في أسواق الأصول والمشتقات المالية في الولاياتالمتحدة وفي بلدان كثيرة من العالم. وتُعد الولاياتالمتحدة أكبر دولة مسؤولة عن الاقتراض غير المسؤول. فهي تستغل قبول عملتها عالمياً بالاقتراض غير المسؤول من بقية الدول. ولم يتعلم العالم ولا الولاياتالمتحدة أن هذه الطريقة في حالة استمرارها ستؤدي إلى كوارث مالية كتلك التي تمر هذه الأيام، ما لم تضع الولاياتالمتحدة أو العالم حداً لهذا الإقراض غير المسؤول. وسيأتي اليوم الذي يرفض فيه العالم قبول الدولار، لأن لديه الكثير منه ولا يستطيع الاستفادة منه، وعندها سنصبح أمام كارثة مالية قد تكون أكبر من هذه الأزمة. ويدل الاقتراض غير المسؤول في كثير من الأحيان على عدم التزام وجدية المقترض بالسداد، ولهذا فهو يحاول اقتراض أكبر كمية من المال قبل أن يدرك الدائنون أنه ليس لديه القدرة أو الإرادة للسداد. ومن أهم الدروس المستقاة أيضاً من الأزمة أن المقامرة تؤدي إلى كوارث مالية مهما كانت الاحتياطات المتخذة، فنشوة المقامرة تنسي المقامر المخاطر المحدقة به وتجعله يتخذ قرارات مميتة. وقد كان العربي في الجاهلية يفقد حريته ويقامر بها مقابل الاستمرار في الإنصات إلى تمني الشيطان له بالمكاسب الكبيرة التي سيجنيها من المقامرة. وقد أدى ترك الأسواق المالية لتنظيم نفسها إلى تحولها إلى أكبر صالات للمقامرة المشروعة في العالم. وهذه ليست أول مرة يجلب الاقتراض غير المسؤول والمقامرة أزمات مالية، فقد أسهما في وقوع أزمات ديون الدول النامية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين. كما أسهما في أزمة انهيار أسهم التقنية في الولاياتالمتحدة، وكذلك في تكون فقاعة الأسهم قبل عدة سنوات في المملكة، التي أدت إلى خسارة عدد كبير من الأسر لجزء كبير من ثرواتهم، بل ووقوع بعضهم تحت طائلة الديون التي مازال كثير منهم يرزح تحت أعبائها. ومن العبر المهمة التي خرجت من الأزمة، هو ضرورة التنبه إلى تجنب طرح الثقة المطلقة في قدرة الأسواق على تحمل المسؤولية وتنظيم نفسها. فقد أثبتت الأسواق مرةً أخرى فشلها في تنظيم ذاتها. فغياب التنظيم الرسمي المصحوب بالجشع السائد فيها وعدم التكافؤ بين المتعاملين، سيؤدي لا محالة إلى تولد التجاوزات، التي تقود إلى ممارسة التغرير والتآمر والاحتيال واستغلال الصلاحيات والمعلومات الداخلية ومختلف أنواع الفساد في الأسواق المالية خاصةً والأسواق بصورة عامة. ولهذا لا بد من سن الأنظمة وتفعيل تطبيقها من خلال تدخل المؤسسات الحكومية العامة في الأسواق لضمان حد أدنى من العدالة والنزاهة والتكافؤ في التعاملات. ومن العبر المهمة المستخلصة من هذه الأزمة، أن الفساد ليس مقتصراً أو مستشرياً في القطاعات الحكومية فقط ولكنه منتشر أيضاً في القطاع الخاص. وقد خرجت من الأزمات المالية الكثير من القصص والأدلة والإثباتات على الممارسات الفاسدة المستشرية في إدارات الشركات والمصارف والأسواق المالية. وأثبتت هذه الأزمة مجدداً، أنه عندما يسقط الكبير (الولاياتالمتحدة) يجر الكل معه (العالم) وعندما يسقط الصغير (الدول النامية) تفرض عليه الشروط ويحمل كامل المسؤولية.