خصّص إمام وخطيب جامع "المحيسن" بأشبيليا - شرقي الرياض، الشيخ عادل الكلباني؛ خطبته لصلاة الجمعة اليوم، عن صورة الطفل السوري "إيلان عبدالله ، 3 سنوات" الذي لفظته أمواج البحر إلى الشاطئ جثة هامدة، وهو في طريقه مع أسرته إلى اليونان؛ تمهيداً للسفر إلى كندا هرباً من جحيم الظالم بشار الأسد. وقال: صورة الطفل الصغير، وجثته ملقاة على الشاطئ، كشفت عوار أمتنا، وأزهقت ما بقي من كرامتها، ووجّه الشيخ رسائل إلى عامة الناس بخطر الظلم.
وبدأ "الكلباني" الخطبة قائلاً: أمة الإسلام: حين تنعدم الرحمة فوق الأرض، فإن أبواب السماء تفتح لتهب منها على المعذبين نسائمها، هذا ما تحكيه وهي صامتة صورة الطفل المسجى على رمل الشاطئ، تقول لنا تركت دنياكم المليئة ظلما، الخالية من الرحمة، وذهبت إلى رحيم سيرعاني، ويحنو عليّ، ويخفّف عني آلامي، انظروا إلى جثتي، وصوروها، وقصوا قصتي وارووها، قولوا هذا الطفل غرق وألقت به أمواج البحر الذي أراد عبوره إلى حيث الأمان، والعيش الكريم، فعيناه الصغيرتان لم تفتحا إلا وأزيز الرصاص يصم الآذان، ورياح الدماء تزكم الأنوف، وأشلاء الإنسان تلقى، أو تدفن تحت ركام حطام البيوت، وجسده يتألم تحت سياط التعذيب، وعرضه ينتهك أمام ناظريه، وكرامته تداس بقسوة الجلادين، وغلظة السجانين، فيعتصره الألم ويكتمه بين جنبيه، يعيش دوماً خائفاً يترقب، يأتيه الموت من كل مكان، فإن لم ترحه المنية، اعتصره ألم فقد الأحباب، وهلاك الأهل والأصحاب، حتى صار الموت بذاته هو الأمنيّة.
وأضاف "صورة الطفل ليست الوحيدة، وليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، في زمن هانت أمتنا فيه على نفسها، وخارت قواها فلم تعد تستطيع حتى الأنين من كثرة الجراح، لكن صورة الطفل وحذائه الصغير الموجهة إلى ضمير العالم، ذلك الضمير الميت، الذي لا ينبض إذا كانت الضحية مسلمة، وتسري فيه الدماء غزيرة الدفق متى كان المتهم مسلماً! تلك الصورة كان ألمها أشد، وجرحها أعمق، نكأت جراح قلوب لم تزل حية، وإن كانت أيديها مكبلة عن نصرتها، والعين عاجزة عن البكاء عليها، فلا سبيل إلى ذلك، فإن دعمهم ماليا محرم، ونصرتهم جسدياً إرهاب، حتى إن أناساً استمرأوا العبودية جعلوا العتب واللوم دون الجلاد على الضحية!
يلومون طفولة فرّت مع والديها من جحيم لا يُطاق، يرون الثورة على الظلم، ومحاولة ردع الظالمين تألياً على الله، وخروجاً عن تعاليم دين جاء ليعز الإنسان، وليعلي مكانته، وأعلن بكل وضوح كرامته: ولقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا.
دين جاء ليحقن الدم ويصون العرض ويحفظ المال، ويرتقي بالنفس البشرية إلى أسمى القيم وأعلاها، وحرّم الظلم بكل أشكاله وفي كل ظروفه، ما احتقر منه وما استعظم، والمشكلة العظمى أن مَن يلوم الضحية بصوت جهوري يسمعه الحاضر والغائب، مع الجلاد الظالم، سفاك الدماء، منتهك الأعراض، آكل الأموال بالباطل، صم بكم عمي فهم لا يعقلون، ولا تسمع لهم صوتا ولو همسا!
وانتقل الشيخ عادل الكلباني، في ثنايا خطبته إلى أصل المشكلة وهو "الظلم"، ووجّه رسالة وعظية وتحذيرية من خطره، قائلاً: أمة الإسلام: إن الله تعالى قال في محكم التنزيل: "ولمن انتصر بعد ظلمه، فأولئك ما عليهم من سبيل، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم".
وهو القائل في كتابه: "(ألا لعنة الله على الظالمين).. وكل من رأى الظلم ورضي به فهو ظالم، وإن لم يشارك إلا بالرضا، وكل من استطاع أن يعين مظلوماً وينصره فخذله، فليبشر بالخذلان، وليسلطن الله عليه ظالماً يسومه أضعاف ما تخاذل عنه.. وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون".
وإني لأعلم أني وأنتم لا نملك من الأمر شيئاً لنصرة إخوان لنا نراهم يُظلمون عياناً بياناً، في وضح النهار، وتحت السمع والأبصار، من كل بني البشر في سائر الأقطار، ثم لا تذرف عين دمعة ترحمهم، ولا تمد إليهم يد تنصرهم، ولا تجد قضيتهم قلماً يذب عنهم، إلا ما وجدوه من أيدي الكافرين امتدت إليهم بالحنان، وأيدي المسلمين عنهم معرضة، وألسنة إعلامهم عليهم محرضة. إن عجزنا عن النصرة باليد أو باللسان، أو بالمال، إذ كل ذلك محظور، ويجلب على الناصر الويل والثبور، فإن سلاحنا الفتاك، وقوتنا العظمى، والأقوى هي أن نستنصر بالمولى القهار، الذي لا يرضى بالظلم، ويأخذ الظالم، وينتقم منه.. والله ليس هو بغافل عنه، ولا يعجزه، ولكن حكمته اقتضت ابتلاء الأمة به ليرى صدقها، ويعلم إيمانها، وما عساها أن تفعل.
وأردف: العاجز، ونحن كلنا عاجزون، عن نصرة الأحبة المستضعفين من إخواننا شيباً ونساءً وأطفالاً، الواجب المحتم علينا، ولا يستطيع أي ظالم أو طاغية في أي بقعة من الأرض أن يمنع منه، أو يحجز عنه هو الدعاء، الحق الذي لا يسلب!
سلاحنا أيد تمتد، وأعين تدمع، وأدعية ترفع ، ووالله لن ترد، في جوف الليل، وفي وقت السحر، في السجود، بين الأذان والإقامة، عند فطرنا إذا صمنا، عند خشوعنا إذا أخبتت قلوبنا، والله لن يخيبنا مولانا، لأنه يعلم منا الصدق، ويجد في قلوبنا الحسرة، ويقدر الدمعة التي فاضت من عين ترى الظلم، وقلب يتقطع ألماً منه وإنكاراً له، ويد مكتفة لا حول لها ولا قوة، وأذن تسمع النحيب، ويصمها الأنين، فيحرمها النوم، ويسد رغبتها في الطعام، وأرجل مكبلة لا تستطيع السير إليها، وجسد مشلول لم يعد يشعر بالألم، ولا يقدر على الحراك.
أيها المسلمون: إن عاقبة الظلم وخيمة، ولا يصدر إلا من النفوس اللئيمة، وآثاره متعدية خطيرة في الدنيا والآخرة؛ وإذا تفشى الظلم في مجتمع من المجتمعات كان سبباً لنزع البركات، وتقليل الخيرات، وانتشار الأمراض والأوجاع والآفات. عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة. رواه مسلم . وعند أحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: يا أيها الناس اتقوا الظلم. وفي رواية: إياكم والظلم.
وتابع، معاشر المسلمين: صورة الطفل الصغير، وجثته ملقاة على الشاطئ، كشفت عوار أمتنا، وأزهقت ما بقي من كرامتها، وجعلتنا نشعر بحرقة ذلك الدعاء، يرفعه الحبيب – صلى الله عليه وسلم - في قمة عجزه ، وقد تخلت عنه كل قوى الأرض ، رجله أدمتها حجارة السفهاء ، ونفسه قهرتها معاندة الجبابرة الأقوياء، فرفع بكل حرقة دعاء سارت به الركبان، لا نجد مناصاً من أن نقتبسه، وندعو به، في زمن عز فيه الناصر، وعظم فيه الظلم، وعجز فيه القادر: اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربنا، إلى مَن تكلنا، إلى بعيد يتجهمنا، أم إلى عدو ملكته أمرنا، إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لنا. نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بنا سخطك، أو يحل بنا غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وختم الشيخ خطبته بأبيات شعر تحذّر من الظلم، قائلاً: "أما والله إن الظلم لؤم وما زال المسيء هو الظلوم إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم ستعلم في الحساب إذا التقينا غداً عند الإله من الملوم".