وقفت سيارة فارهة أمام بقالة صغيرة للمواد الغذائية، ونزل منها مواطن، اقترب من نهاية عقده الخامس، يرتدي ثوباً فخماً، وغترة تتمتع بألوان زاهية، وحذاء ذا لمعة مميزة، وتفوح منه رائحة عطر "باريسي" أخاذ.. غاب الرجل داخل دهاليز المركز بضع دقائق، وعاد إلى الواجهة حاملاً خبزاً وبعض المعلبات والحلويات، وأقبل على "الكاشير الهندي"، وألقى بحمولته أمامه، وقال له كلمة واحدة "سجل".. ليقوم بعدها العامل بحصر المشتريات وتسجيلها في دفتر أزرق صغير، قبل أن يحملها المواطن ويغادر البقالة في هدوء. وتجبر الظروف الاجتماعية والمالية وضعف رواتب بعض السعوديين على شراء احتياجاتهم من البقالات بنظام "الآجل"، ويشجعهم على ذلك ترحيب مسؤولي بقالات المواد الغذائية بتأجيل الدفع لنهاية الشهر، بالتزامن مع صرف الرواتب. وتصل العلاقة بين المستهلك "المواطن" ومسؤول البقالة إلى قيام الأخير بإقراض المواطن مبالغ مالية يحتاج إليها، على أن يسددها له مع قيمة المواد الغذائية وفق آلية السداد المتفق عليها بينهما.
ولا يقتصر تعامل السعوديين مع آلية الدفع ب"الآجل" على الطبقة الفقيرة، وإنما يكثر في الطبقة المتوسطة، التي تضم معلمين ومحاسبين وموظفين في القطاعين الحكومي والخاص، الذين يعانون ضعفاً في توافر السيولة، بسبب الديون من البنوك. في المقابل، يدرك مسؤولو البقالات الصغيرة، وغالبيتهم من الجنسيتين الهندية والبنجلاديشية، أحوال المواطنين، فيسمحون لهم بشراء احتياجاتهم مع تأجيل الدفع، بهدف إنعاش مبيعاتهم. ويخصص مسؤولو البقالات دفتراً يسجلون فيه قيمة مشتريات زبائنهم بكل دقة ومهارة؛ حتى لا تضيع عليهم أموالهم، وغالباً تجمعهم علاقة عنوانها "الثقة"، بين المستهلك ومسؤول البقالة، الذي قد يضطرإلى إلزام المستهلك بالتوقيع أمام كل قيمة مالية مسجلة عليه في دفتر التسجيل.
رواتب السعوديين تقول وزارة العمل إن متوسط الأجر الشهري للسعوديين في القطاع الخاص بلغ 4748 ريالاً مقابل 1176 ريالاً لغير السعوديين. وأظهرت الإحصاءات أيضاً أن مهن الزراعة وتربية الحيوان والطيور والصيد سجلت أدنى مستوى ومتوسط للرواتب بين كل الوظائف الأخرى للسعوديين ب 2996 ريالاً.
وبحسب تقرير وزارة العمل نفسها، تراجعت رواتب السعوديين بنسبة 1 % خلال عام 2013 مقارنة بعام 2012؛ إذ بلغت آنذاك نحو 4801 ريال، وبلغ إجمالي رواتب السعوديين بالقطاع الخاص خلال العام الماضي نحو 83.2 مليار ريال.
وارتفعت رواتب الوافدين العام الماضي بنسبة 25 %مقارنة بعام 2012؛ إذ بلغت آنذاك 940 ريالاً، وبلغ إجمالي رواتب الوافدين بالقطاع الخاص 115.9 مليار ريال.
وكشفت وزارة العمل في التقرير أن غالبية السعوديين يشتغلون ضمن مهن الكتابة ومهن الخدمات، فيما تتوزع أكبر الأعداد من العمالة الوافدة على مجالين، هما المهن الهندسية الأساسية والمساعدة، ومهن الخدمات.
ويبلغ عدد العاملين السعوديين في منشآت القطاع الخاص بنهاية العام الماضي نحو 1.47 مليون موظف وموظفة، فيما يبلغ عدد العاملين الأجانب 8.21 مليون.
ثقافة الشراء ويقول عثمان عبدالله إن ثقافة شراء السلع بالآجل لم تكن موجودة في المجتمع السعودي، لكنها بدأت تتسرب إلىالمناطق الشعبية والعشوائية. ويتابع: "هناك ظروف عدة وراء إدخال هذه الثقافة في مجتمعنا السعودي، من بينها العمالة الوافدة، التي اعتادت على هذه الثقافة في بلادها، ورأت أن تدخلها في المجتمع السعودي، وساعدها على ذلك أن الكثير من المواطنين يعانون ضعف الرواتب، وضياعها على الديون والمستحقات المالية، فيضطرون إلى أن يشتروا احتياجاتهم بالآجل". مضيفاً بأن السعوديين سمعوا بهذه الثقافة أيضاً من الأفلام المصرية القديمة، التي كانت تروج لثقافة شراء الاحتياجات من البقالات، مع تأجيل الدفع، ولكن تحت مسمى "على النوتة".
الأمانة والنزاهة ويشتري عبدالله السلطان "موظف في القطاع الخاص" بنحو 500 ريال من البقالة المجاورة لمسكنه، ويقول: "راتبي يصل إلى 5500 ريال، يذهب أغلبه في سداد ديوان السيارة والإيجار ومصاريف المدرسة لابنتي، ولا يبقى من الراتب سوى 1150 ريالاً، أحتفظ بها للأشياء الضرورية الطارئة، فيما أؤمن بعض المواد الغذائية من بقالة عامل هندي، اعتاد أن يقرضني وسبعة مواطنين من جيراني في الحي الذي أسكنه".
وأضاف: "لا أراجع ما يسجله هذا العامل؛ فهو معروف في الحي بالأمانة والنزاهة، ولا مجال للشك في ذمته". ويضيف "هذا العامل أشهر شخصية في الحي الذي نسكنه، وقد اكتسب شهرته تلك من مواقفه النبيلة مع بعض المواطنين، بإقراضه لهم في الحالات الطارئة، وعرض خدماته عليهم".مشيراً إلى أن "هذا العامل أقرض مواطناً 2500 ريال لمساعدته في دفع قيمة علاج ابنه في مستشفى خاص، كما تحمل مصاريف مواطن آخر من أبناء الحي، ظل لمدة ثلاثة أشهر عاطلاً عن العمل، وكان يعطف على أرملة سعودية تربي أيتاماً، ويبيع لها السلع بسعر التكلفة دون هامش ربح".
الأوضاع المالية ويؤكد فيصل الزهراني "معلم" أنه لم يتوقع في يوم من الأيام أن يقترض طعامه، ويقول: "كنت أحلم بالوظيفة المرموقة، والمستقبل الباهر، وتخرجت في جامعة الملك سعود قبل سبع سنوات، وعملت مدرساً لمادة العلوم في إحدى المدارس الحكومية، وبالكاد يكفيني راتبي، إلا أن هذا لا يمنعني من الاقتراض من بقالة صغيرة بجانب المدرسة التي أعمل فيها، واتفقت مع مسؤول البقالة، وهو عامل هندي، على السداد كل أول شهر هجري، مع صرف الراتب. وما شجعني على ذلك أن زملاء لي في المدرسة نفسها يقترضون من البقالة، ويسددون ما عليهم كل أول شهر".
ويتابع: "كنت أعتقد أن الوظيفة الحكومية تمثل أماناً تاماً لصاحبها، وأن راتب الوظيفة سيكفيني ويكفي احتياجاتي، إلا أن ما حدث هو العكس تماماً: ديون من الأهل وبعض الزملاء، وقروض من البنوك، وتأمين بعض الأغراض الغذائية بالآجل من عامل هندي، يدرك تماماً حقيقة أوضاعي المالية، وفتح لي حساباً في دفتره بتوصية من زميل لي سبقني إلى هذا الأمر؛ ليسجل فيه قيمة ما اشتريه منه".