أكد مفسر الرؤى والأحلام المعروف عضو الدعوة بالرياض، الشيخ حسن بن شريف المشيخي، أن المتأمل لكتب تفسير الأحلام التي تُنسب لبعض أئمة التعبير، يجد أن ما يوافق زماننا منها هو الشيء اليسير، باستثناء ما ثبت في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، وما سوى ذلك فهو محل نظر. وشدد على ضرورة ألا يخوض في تعبير الرؤيا إلا عالم عارف بأحوالها؛ لأن الفصل فيها ليس بالسهل، لكونها إدراكات علقها الله عز وجل في قلب العبد، إما بأسمائها وإما بكُناها، ولا يفك رموزها إلا من وفقه الله وعلمه تأويل تلك الأحاديث.
وقال "المشيخي": إن العارف المتضلع في علم الرؤيا قد لا يستطيع التعبير، وهذا لا ينقص من قدره، فإن من برع في الأدب ليس بالضرورة أن يكون شاعراً، فإن سلمنا بأن الشعر موهبة فكذلك تعبير الرؤيا موهبة، لكن المُعبر لا بد أن يكون ذا علمٍ واطلاعٍ واسع، فإنه إن كان مفلساً من العلم الشرعي فلا قيمة لتلك الموهبة.
وأضاف: كم نحن بحاجة للبحث والتدقيق في بعض أحاديث الرؤيا المُختَلف فيها، والتي يستدل بها البعض مع أنها تُعارض الأحاديث الصحيحة، ومن ذلك ما جاء في سنن الدارمي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها -زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: "كَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَهَا زَوْجٌ تَاجِرٌ يَخْتَلِفُ فَكَانَتْ تَرَى رُؤْيَا كُلَّمَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَلَّمَا يَغِيبُ إِلا تَرَكَهَا حَامِلاً، فَتَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقُولُ: إِنَّ زَوْجِي خَرَجَ تَاجِراً فَتَرَكَنِي حَامِلاً، فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّ سَارِيَةَ بَيْتِي انْكَسَرَتْ، وَأَنِّي وَلَدْتُ غُلاماً أَعْوَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرٌ يَرْجِعُ زَوْجُكِ عَلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى صَالِحاً وَتَلِدِينَ غُلاماً بَراً. فَكَانَتْ تَرَاهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً، كُلُّ ذَلِكَ تَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ ذَلِكَ لَهَا، فَيَرْجِعُ زَوْجُهَا وَتَلِدُ غُلاماً. فَجَاءَتْ يَوْماً، كَمَا كَانَتْ تَأْتِيهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَائِبٌ، وَقَدْ رَأَتْ تِلْكَ الرُّؤْيَا، فَقُلْتُ لَهَا: عَمَّ تَسْأَلِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَمَةَ اللَّهِ؟ فَقَالَتْ: رُؤْيَا كُنْتُ أُرَاهَا فَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلُهُ عَنْهَا، فَيَقُولُ خَيْراً، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ. فَقُلْتُ: فَأَخْبِرِينِي مَا هِيَ. قَالَتْ: حَتَّى يَأْتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْرِضَهَا عَلَيْهِ كَمَا كُنْتُ أَعْرِضُ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهَا حَتَّى أَخْبَرَتْنِي. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَئِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكِ لَيَمُوتَنَّ زَوْجُكِ وَتَلِدِينَ غُلاماً فَاجِراً. فَقَعَدَتْ تَبْكِي، وَقَالَتْ: مَا لِي حِينَ عَرَضْتُ عَلَيْكِ رُؤْيَايَ. فَدَخَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: لها ما لها يا عائشة؟ فأخبرته الخبر وما تأولت لها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فاعبروها على الخير، فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها. فمات والله زوجها ولا أراها إلا ولدت غلاماً فاجراً".
وهذا الحديث عند الدارمي وهو ضعيف، لأن فيه محمد بن إسحاق، قيل عنه: مدلس، ولم يصرح بالسماع (والتدليس في اللغة: التلبيس والتغطية، واصطلاحاً: أن يروي الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه بلفظ يوهم السماع ك: عن، و: قال، و: أن. وهو أنواع: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، وتدليس التسوية، وهذا ليس موضوعنا).
وشرح الشيخ كيف أن هذا الحديث فيه نكارة من جهة المتن:
أولاً: رجوع المرأة بنفس الرؤيا على نفس الحالة وعدم قول النبي صلى الله عليه وسلم لها: إن تأويل هذه الرؤيا قد سبق، والعادة تمنع مثل هذا.
ثانياً: أخبرت المرأة عائشة رضي الله عنها بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوَّل هذه الرؤيا خيراً، وأنها كانت تحصل كما يؤولها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عائشة رضي الله عنها لم تسأل المرأة عن تأويل النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن تأويله صلى الله عليه وسلم ليس له قيمة.
ثالثاً: ورغم فقه عائشة وعلمها رضي الله عنها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أوَّل الرؤيا خيراً، فعائشة لم تسأل عن تأويل النبي صلى الله عليه وسلم، والعظيم في الأمر أن عائشة أوَّلتها شراً، رغم عدم اختلاف حال الرؤيا وحال الرائي عن المرات السابقة التي سبق أن عبَّرها صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: متن الحديث يشير إلى تدخل عائشة رضي الله عنها في أمر لا يعنيها، قد فصل فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
خامساً: لم يزجر النبي صلى الله عليه وسلم على كل ما فعلت من الاستهانة بتأويله السابق للرؤيا ومخالفتها لتأويله صلى الله عليه وسل مومن تدخلها فيما لا يعنيها، وهي الفقيهة العالمة رضي الله عنها وأرضاها.
ويكمل الشيخ المفسر: والأحاديث قد يصلح أن نقوي بعضها ببعض، ولكن بشرط ألا يكون المعنى مخالفاً للسنة النبوية الصحيحة؛ لأن هذه الأحاديث الضعيفة معارضة أساساً للصحيح، وهذه علامة على أن هذا الضعف مما لا ينجبر.
وسلط الضوء على أن الذين صححوا هذه الأحاديث قالوا: إن الرؤيا لأول عابر في حالة أن التعبير كان وفق قواعد التعبير، أما إذا كان التعبير بعيداً عن الاحتمال فهذا ليس من باب: الرؤيا لأول عابر.
ولكن الصحيح أن هذا تكلف في الجمع، لأن الأحاديث لم تذكر مثل هذا الوجه للجمع بل أطلقت أن الرؤيا تقع وفق التعبير، ولم يأت استثناء، بل في الروايات التي يصححها البعض "فلا تقصها إلا على وادّ أو ذي رأي"؛ أي قصها على محب أو عالم حتى يقع لك الخير، ولو قصت الرؤيا على جاهل أو مبغض لوقعت كما قال المبغض، وكما قال الجاهل، ومن المعلوم أن الجاهل لا يعبر وفق قواعد التعبير، فالروايات تقرر أن الرؤيا تقع وفق التعبير ولو عبرها جاهل تعبيراً بعيداً عن الصواب والاحتمال؛ وهذا ينفي وجه الجمع المذكور آنفاً.
ولهذا قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) (يوسف: 44): "في الآية دليل على بطلان قول من يقول: إن الرؤيا على أول ما تعبر؛ لأن القوم قالوا: أضغاث أحلام، ولم تقع كذلك، فإن يوسف فسرها على سنين الجدب والخصب، فكان كما عبر. وفيها دليل على فساد أن الرؤيا على رجل طائر فإذا عبرت وقعت". (تفسير القرطبي ج9/ ص201).
وقال الجصاص: "فإنا قد علمنا أن الرؤيا كانت صحيحة، ولم تكن أضغاث أحلام؛ لأن يوسف عليه السلام عبرها على سنين الخصب والجدب، وهو يبطل قول من يقول: إن الرؤيا على أول ما تعبر؛ لأن القوم قالوا: هي أضغاث أحلام، ولم تقع كذلك.
ويدل على فساد الرواية بأن الرؤيا على رجل طائر فإذا عبرت وقعت". (أحكام القرآن للجصاص ج4/ ص388- 389).
وقد بوب البخاري رحمه الله فقال: (باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب).
وروى البخاري أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل فأرى الناس يتكففون منها فالمستكثر والمستقل، وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل. فقال أبو بكر يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعبرها، قال أما الظلة فالإسلام وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف، فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، قال فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت قال لا تقسم. (البخاري: 6524) (مسلم: 2414).
والشاهد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بعدما أول الرؤيا: "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً" ولو كانت الرؤيا لأول عابر لما خطّأ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، مع العلم بأن أبا بكر لا يؤول إلا وفق قواعد تأويل الرؤى، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم هو المعلم المباشر لأبي بكر؟!
وهناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب (البخاري: 3352) (مسلم: 4217).
والشاهد في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو النبي المرسل من عند الله لما أول الرؤيا اجتهاداً دون الوحي لم يتضح تأويلها، فذهب ظنه إلى أنها اليمامة أو هجر، وهذا الظن لم يغير حقيقة الرؤيا؛ ولذا فالرؤيا ليست لأول عابر.
ونوَّه الشيخ "المشيخي" إلى أن البعض يعتقد أنه لا بد من أن ترى الرؤيا أكثر من مرة حتى تكون رؤيا صالحة ولم يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم من سأله عن تأويل رؤيا، أتكررت رؤيتها أم لا؟ فإن تكررت اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا صالحة، وإن لم تتكرر لم يعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا صالحة، إن هذا لم يحصل.
مردفاً: نعم تكررت بعض الرؤى في شأن الأذان، وفي شأن ليلة القدر، ولكن لا يعني ذلك أن تكرر الرؤيا شرط حتى تعتبر صالحة.