أغمض عينيه بقوة، أطلق زفرة كأنه يطلق سراح كل أمل بداخله، إن كان هناك ما تبقى من أمل، ثم رسم ابتسامة باهتة وفتح باب منزله آملاً أن يكون اليوم – على غير العادة – يوماً فيه بصيص من سعادة. استقبلته كعادتها وهي تعقد ذراعيها فوق صدرها، تنظر إليه بوجه خلا من الملامح، تلاشت ابتسامته تدريجياً ثم بادرها: - السلام عليكم - الظاهر أنك أول من يوقع حضور وآخر من ينصرف! تجاهل ملاحظتها الساخرة التي تستقبله بها يومياً، وإن كانت كل يوم تستخدم عبارة جديدة استعارتها من المسلسلات المستهلكة التي تتابعها دون ملل.. دخل غرفته، وأغلق الباب وراءه وهو يتمنى ألا يفتح مرة أخرى.. كيف آلت حالي لهذا المآل؟ كيف فقدتُ ذاتي ودفنتُ روحي! منذ خمس عشرة سنة وأنا أعيش كالخفافيش، أنام نهاراً لأهرب من واقعي الذي اخترته بنفسي، وأسهر الليل لأجتر آلامي وحيداً، أقرأ كتباً لا يشاركني أحد متعة الحديث عنها، أكتب خواطري وأقرؤها لنفسي لأني ليس لي سواها يعزيني في موت إحساسي. تزوَّجا منذ خمس عشرة سنة، وبعد مرور السنة الأولى أدرك أنها ليست المرأة التي يريد أن يشيخ معها، ليست التي يتلذذ بقهوة الصباح من يديها، وليست التي يستأنس قربها منه، لكنه كان يقنع نفسه بأنها ستعتاد طباعه وتتشرب اهتماماته فتشاركه إياها، واكتشف متأخراً أنها شربته كآبتها! أحاديثهما اليومية تنحصر في مشكلات أولاده، وكيف أن الخادمة كسولة أكولة تحب النوم وتتسمر أمام التلفاز وتحتاج لمتابعتها الدائمة.. كان كعادته يأكل بصمت، يحلق في عالمه الخاص، يفكر في أي شيء لئلا يسمع شيئاً مما تقول.. لقد كف عن الاستماع إليها منذ سنين. لم يكن يستطعم شيئاً مما تطبخ "الخادمة"، ولا يتلذذ بالشاي الذي تحضره "الخادمة"، ولا يفض نزاعات أولاده لأنه يعلم أن "الخادمة" موجودة للتدخل بينهم، ولا يشعر بوجوده ك"رجل" في بيته؛ لأنه لا وجود ل"امرأة" فيه. أصبح يتذكر ماضيه بتحسر وألم، أصبح يقلّب دفاتر خواطره التي كتبها أيام الجامعة، كانت مشبعة بالأحلام، متوثبة للسعادة، كانت "غبية" كما يحلو له أن يصفها اليوم. اليوم، يعيش وحيداً وهو بين زوجته وأطفاله، ترك الرسم؛ لأن زوجته تتأفف من رائحة الألوان، وبعدها تنازل عن مرسمه الذي كان يوماً ما ملاذه؛ ليصبح مخزناً للأثاث القديم. ترك كتابة الشعر؛ لأن شريكة حياته تحب الشعر الشعبي ولا تستلطف الفصيح؛ فهو "متكلف" و"معقد" و"غير مفهوم"، ولا يتناسب مع ذائقتها المتواضعة.. أصبح محور حديثه هو الأهل والعائلة، من سيزورهم وماذا سوف تطبخ "الخادمة"؛ لأن هذا هو سقف اهتمامات "أم العيال".. باختصار، أصبحت حياته روتيناً مملاً قاتلاً، يدور بوتيرة ثقيلة، وإنْ كانت تتسارع يوماً بعد يوم؛ لتوحي له بأنها في لحظة ما ستدهسه بلا رحمة. إلى أنْ جاء ذلك اليوم الذي أخبرته فيه بأنها زارت جيرانهم الذين انتقلوا حديثاً للبيت المجاور لهم. كانت تتحدث عن جارتها الجديدة بحماس ملحوظ؛ فجارتها السابقة كانت عجوزاً طاعنة في السن، ولا تتابع المسلسلات أو تذهب للأسواق، لا شيء مشتركاً بينهما، أي – كما تقول -"الحياة معها انتحار بطيء"! - "بس هذي الحمد لله، شكلها من عمري، وعندها ولد وبنت. تقول إنهم اشتروا البيت بتسعمية ألف! يابلاش والله". أصبحت أحاديثها عنها تتزايد يوماً بعد يوم، لأول مرة يلاحظ أن زوجته معجبة بامرأة أخرى غير ذاتها، لكنها كانت دائماً تردد أنها "غريبة الطبع".. و"كأنها من كوكب ثان!".. فهي لا تغادر بيتها إلا فيما ندر، وترسم يومياً ".. سبحان الله بدون ما تكتمها ريحة الألوان!".. تطبخ طعام زوجها بنفسها رغم وجود الخادمة! تأخذ أولادها للمكتبة مرة كل شهر، وتخصص لنفسها ساعتين بعد نوم صغارها لتقرأ، وربما تكتب قليلاً.. والغريب في الأمر أنها تستيقظ باكراً لتجهز صغارها للمدرسة "من له خلق يقوم من فجر الله يقابل ذالبزارين! هذا وهي مهيب موظفة.. سبحان الله ياحبها للغثا!". تدريجياً، بدأ يشعر بأن زوجته هي الغريبة، أصبحت هي الدخيلة في كل "سوالفها" عن جارتها.. بدأت تتسلل هذه الجارة إلى أفكاره، أصبح حديث زوجته عنها يشده للاستماع، بل قد يتوقف عن الأكل لحظات ليتابع ما تقول، وكانت زوجته تسترسل وتفصل لأنها – لأول مرة منذ سنوات - حظيت بانتباهه. مرت الأسابيع وهو يسمع يومياً عنها، أصبحت تسكن تفكيره وإنْ حاول أن يبعدها عن مخيلته، يتناساها يوماً فتعود لتفكيره مع أول خلاف بينه وبين زوجته، وكثيرة هي خلافاتهما، كلما رأى زوجته تغط في سبات ذي شخير في غرفة أولادها يتذكر أن جارتهم تستمتع بكوب الشاي في حديقتها، وكلما خرج صباحاً ليأخذ جريدته يبتسم لأنه يعلم أن "جارته" لا تقرأ إلا الجريدة ذاتها. "تجرأ" وأخرج لوحاته وفرش الرسم، وبدأ يرسم بحماس وحنين، غير عابئ بزمجرة زوجته وتذمرها. أصبح يستيقظ باكراً، يأخذ قهوته ويشربها في الحديقة وهو يتصفح جريدته، ويقف برهة، ثم يقترب من الجدار الملاصق لهم؛ ليسمع صفحات جريدتها تفتح بكل هدوء وأبناءها يلعبون ويتبادلون التعليقات بانتظار حافلة المدرسة، وهي لا يسمع منها إلا حفيف أوراق جريدتها. عاد ليتابع الجزيرة الوثائقية بشغف الماضي؛ لأنه أخيراً أيقن أن هناك من يتابعها معه في الوقت نفسه، وإن كانت بينهم جدر كثيرة! أصبح يستمتع بشاي المساء وحيداً، يحرك أغصان النعناع في كوب الشاي، تماماً كما تفعل جارته، وابتسم وهو يتذكر تعليق زوجته حينما قالت: "سبحان الله اللي يشوف طبايعكم يقول اخوان توأم"! عندها تلاشت ابتسامته، فكر، ولِمَ لا تكون هي فعلاً؟ كيف لا تكون من يفترض أن أعيش حياتي معها! من تشاركني أفكاري واهتماماتي، من أقرأ لها وترسم لي، من نصحو لنشرب كوب القهوة معا!؟ لكنها متزوجة!.. ساقه الفضول إلى طرق بابهم ليتعرف على جيرانه الجدد. دفعه فضوله لأن يرى كيف تبدو العائلة المثالية، فإذا به يعود لمنزله بأكثر مما خرج به من تعجب. زوجها موظف بسيط، بالكاد حصل على شهادة الثانوية العامة، وبالكاد يمتلك ثقافة أصلاً. لا يهتم بهندامه، وإن كانت ملابسه مرتبه ونظيفة، عابس الوجه، كثير الزجر لطفليه.. استمر حوار التعارف بينهما دقائق معدودة، أصبح بعدها يتساءل: لماذا هو؟ ما المميز فيه لتكون لديه المرأة الكاملة! أنا أفضل منه، وهي أفضل من أن تكون له! وذات ليلة، قبيل الفجر، استلقى في حديقته التي أصبحت تشبه حديقتها، أخذ منه التفكير كل مأخذ، كان الإحباط قد تمكّن منه؛ فأمسك القلم بيد مرتعشة، وكتب "لها"، كم هي إنسانة مميزة، وكم "تشبهه" في كل شيء، ولا تشبهها امرأة أخرى، كتب وأسهب وتجاهل صوت العقل، فاليأس عدو العقل! قرأ الرسالة مرة ومرتين وثلاثاً، وهو يتساءل: وماذا بعد؟ لكنه خاف أن يتراجع، أو "يتعقل"، سمع صوت الباب، علم أنها خرجت لتأخذ جريدتها، هرول للخارج، وثنى رسالته التي كتبها بكل ما أوتي من جنون.. بهدوء، مرر الرسالة أسفل الباب، وعاد إلى منزله. في تلك اللحظة أدرك فداحة جرمه.. شعر بالندم ينهشه "وش سويت؟ وش سويت".. أخذ يردد هذه الجملة على نفسه بصمت مخنوق بالندم! تراءت له صورة جاره، وزوجته وأبنائه.. ماذا سيحدث الآن! اقترب من الحائط، أرهف سمعه، بل جمع مشاعره كلها في سمعه.. ها هي تفتح الرسالة، ميز صوت الورقة السميكة.. وبهدوء دخلت منزلها وأغلقت الباب.. مر أسبوع وهي لا تخرج لحديقتها، لم يعد يشم أريج قهوتها، ولا يسمع حفيف جريدتها أو همسها لأطفالها! مر أسبوع ثقيل كئيب، فقد فيه كل إحساس بالكرامة واحترام الذات، احتقر نفسه ألف مرة، وعاتبها ألف مرة، والتمس لها ألف عذر وعذر.. لكن لم يحصل شيء! وذات صباح، سمع بابهم يفتح، وبعدها بثوان قليلة طرق جاره على بابه، فتح الباب بلهفة وخوف وخجل، بادره بالسلام ثم قال له: - "حنا ان شاء الله ناقلين بيت ثاني، خلصنا نقل أغراضنا لنا ثلاثة أيام واليوم نبي نطلع على خير". - "................." - "عاد أم العيال قالت لي أعطيكم مفتاح البيت لأن يمكن يجون ناس يشوفونه، نبي نبيعه، الظاهر ما أعجبها الحي، تقول الصرف الصحي وأنت بكرامة لك عليه". - "الله يستر عليكم" - "هذا المفتاح، ترانا مخلين غريضات ما نحتاجها، إذا تبونها أو تعرفون أحد بينتفع فيها خذ راحتك ذا مثل بيت أخوك". في هذه اللحظة خرجت هي من بيتها، وأغلقت الباب، توجهت للسيارة، لأول مرة يراها، والمرة الأخيرة، كانت متوشحة سواد الستر، ويتوشحها بياض الطهر، مشت بهدوء رصين وركبت السيارة وأغلقتها.. وانطلقت بهم وهو يلاحقهم بنظراته، يود أن يعتذر، أن يصفع نفسه، أن يعيد الزمن ويمسح أخطاءه.. لكنهم رحلوا! دخل المنزل، يبحث عن تلك "الغريضات".. لكن البيت كان خالياً، لم تترك وراءها سوى أرجوحتها، وعليها جريدة ذلك اليوم، ما زالت كما هي لم تتصفحها.. أخذها فسقطت رسالته منها، وقد كتبت له في آخرها كلمة واحدة فقط: "للأسف"! إيمان عبدالعزيز