للقهوة العربية أهمية في حياة البدوي تتجاوز أهميتها في المدينة, إنها المرة التي لا تخلط بغير الهيل والزعفران والمسمار ونحوها من طيب الرائحة. ولا يتسع المقام لذكر تقاليدها وعلاقتها بالكيف. لقد رفع البادية مقام القهوة إلى درجة عالية, فهي سيدة مجالسهم, ورفيقة وحدتهم, وعنوان كرمهم. باشعال النار لها يرشدون عابري الفيافي لدورهم, وبطريقة دق بنّها يدعون جيرانهم لمجلس الحي. طلب رجل من ابنه إعداد القهوة ودعوة الجيران إلى المجلس, فاستجاب الابن ولكنه لم يذهب لدعوة الجيران, فأعاد الأب الطلب بدعوة الجيران فقال: أنشد عن اللى صوروا له منه فيه لا حث به لازم يلج التنادياللي يريده من ضميره ويبغيه هوه يجي ما هو محاوج منادي قال الأب: نعم, وكرر البيت الأخير. يشير الابن إلى أن (نقرزة) الهاون أو النجر أو الهاوند هو النداء الخاص بدعوة الجيران للمشاركة في تناول القهوة, ويعني بالبيت الأول الوعاء الذي يدق فيه البن أو الأداة التي يدق بها البن وهما من مادة واحدة, نحاساً كانت أو خشبا. وعلى رائحة القهوة يهتدي عاشقها إلى مصدر الرائحة, والقهوة أول ما يقدم للضيوف, ومنها البكر (النخب الأول) ومنها "الثنوي" (الاعادة), كان ذلك قديما, أما اليوم فالبكر أولاً وآخراً, فقد تحسنت الأحوال المادية, وأصبح لا حاجة لا عادة (طبخ). والقهوة من الفنون التي يفاخر بها, من حيث نوع البن, وأسلوب حمسه وإعدادها وتناولها: الفن فنين وهي فنون وكل فنين مصطفة الشاذلية مع الغليون والكاس يحلى مع اللفة والشاذلية من أسماء القهوة, والكاس الشاي, واللفة هي لفة التنباك بورق الشام. وفخر البدوي بالقهوة وصحبتها عند المعاناة يعبر عنه الشاعر محمد بن دخيل الله الجهني (من شعراء أوائل القرن الماضي وما قبله) في أبيات منها: أنا ما انادي, نجري اللي ينادي نجراً يصوت تالي الليل ما بات تقول ذيبا بين رالين بادي فنجال لا هل الكيف ما هي علَيْمات يسمع به اللي من ورا مصر غادي ويسمع به الحيِّين واللى بعد مات نشرب مبَّهر في حسين الزبادي حتى انت في نفسك تجي عشر مرات يصور صوت النجر في آخر الليل بصوت ذيب جبلي رالين قرب الوجه, ذلك الصوت المعروف لأهل منطقة الوجه, فنجان من القهوة ودعوة جادة للصديق وعابر السبيل ممن تحتل القهوة لديهم مكانة رفيعة, وحدد الشاعر الوقت بتالي الليل لأنه الوقت الذي ينام فيه الخلي الذي لا حاجة له. والمبالغة في البيت الثالث دلالة صدق النداء. أما الشاعر مسعود بن مسلم الجهني فإنه عندما كبر يوصي أبناءه بالمحافظة على العادات والتقاليد وبخاصة إكرام الضيف وإحياء المجلس بالكرم والقهوة فيقول من قصيدة يوجهها لابنيه مضيان وماضي فيقول: يا من يورّد لي جوابي مضيّان يقرا جوابي ثم يعطيه ماضي لا صار انا من نص الاسناع زعلانأ شدا لزرعة قافيتها الرماضي يا وَيْلدي يا مسندي يا مضيان كان انت رجل وفي تبغى البياضِ تبغى الجميلة في والطيب واحسان أوصيك لا ترضى علي التغاضي الدلّتين اللي وراكم لهن شان يبن بن وهيل قبل المقاضي اللي لهن ما ينطحه كل ديان يقضي لهن من رقعة السوق ماضي في بداية الانتعاش الاقتصادي في البلاد غادر الشباب القرية والبادية نحو المدن حيث العمل, وبخاصة مدن البترول, وكانوا يواصلون آباءهم وأهلهم في ربوعهم بالمال والعطاء والمواد الغذائية والكساء وغير ذلك من اللوازم والاحتياجات, والشاعر هنا يوجه رسالة إلى ابنيه مضيان وماضي ويصف لهما ما آل إليه من بلوغ سن تجعله قاصرا عن أداء بعض شؤون الحياة, مشبهاً حاله بنبتة أدركها القيظ فذوت فروعها وأوراقها, وليس له ما يستند إليه بعد الله غير ابنيه يستعين بهما على قضاء مطالب الحياة, ولا يلزمهما بذلك, بل يخيرهما بين الوفاء بحق الرجولة والإحسان إلى الأب فلا يشعر بالإغضاء والخفض أمام الناس, ثم يحدد مطلبه بأنه مطلب دلتي القهوة من البن والهيل, فواجبهما أكبر من أن يعجز الرجل ولو اضطر إلى الدين. ثم يستنهض ابنيه مذكراً إياهما بمعاني وصفات الرجولة في قوله: يوم النشامى تقتلب تقل عقبان الصقر بيّن طيرته بانتهاضِ أما وقد يسرت المدينة كثيراً من الشؤون حيث لا حاجة إلى نجر أو محماس بعد انتشار المحامص في المدينة والقرية, والمطاحن المنزلية في البيوت, وتوفر الحافظات الكهربائية, وانحسار المجالس العامة إلى مسيار ومناسبات, ولم يبق من وهج القهوة غير ما احتفظت بشيء منه رحلات البر فإن الشاعر عايد بن فهد الجهني ينقل لنا صورة من هذا التحول فيقول: يا ما حلى الفنجال في خايعاً سال عليه من وبل الثريا رشاشِ في ظل سرحة مابعد ظلها ظلال وهذي طرات العمر فيها انتعاشِ ما طبّت الطاحون والهيل فنجال تصحِّي اللي نومهم باندهاشِ ريحة عويدي فوقها يشرح البال ولا شمت العربة وريح القشاشِ وسط الرجال مدلهمة ضايق الجال اللي عليه من الليالي ابلاشِ يا زين جلستهم على كبش ودلال من بعدها تبدا مزوح ونقاشِ والقصيدة طويلة فيها من تقاليد حياة الحاضر والماضي ما يحسب للأدب الشعبي تدوينه للمتغيرات والتحولات الاجتماعية, فلقد عرفنا أن بعض أهل الماضي يأنفون من تناول القهوة فرادى فهم يعدونها فرادى في انتظار قادم من الجيران والاصدقاء أو من عابري السبيل, وعندما شاعت المطاحن الكهربائية المنزلية لم يجدوا فيها ميزة حسنة, بل إن بعضهم كان يمتنع عن تناول قهوة لم يتسخدم النجر في سحق بنها, وحتى ما يشترى من المطاحن جاهزا لم يجدوا فيه لذة ما يعد أمام أعينهم أن قبلوا به, فالقهوة ليست مشروباً مستهدفاً لذاته وإنما هو مؤانسة ومحادثات. ومن شعراء جهينة إلى شعراء الزلفي, فالقهوة معشوقة أهل الصيت والمكانة, وزينة مجالسهم, فالشاعر أحمد الهباس يقول من أبيات من روح أبيات أبي ماضي يوجهها لابنه هباس الذي يعمل في الكويت: يا أهل النضا الحيل خطي ما تودونه ودوه يم الولد كان الولد ناسي أبوه عنده رجاجيل يشوقونه ما ينفع الكذب والحيلات بالناسِ الهيل كمّل وانا ما اجوز من دونه وين انت يا موصل اخباري لهباسِ العيش صاعٍ وعيّوا لا يبيعونه والتمر وزنة مصيبات على الناسِ من اوّل الشيب يبدا بي على هونه واليوم عجل واشوفه صابغٍ راسي ومن شيّب اليوم بالله لا تلومونه هذا زمان يشيّب بالصفا القاسي أكبرهم هذا الشيخ توفر الهيل والقهوة في مجلسه, فالمجلس لا يعمر بجلاسه ما لم تكن القهوة رسولاً بين الجلاس تؤنسهم تقاليدها, ويعطرهم فوحها وشذا هيلها, ويطربهم ساقيها حذقاً وأدباً, ويستعيدون ذكرياتهم وذكريات من كانوا قبلهم, كانوا أشد تعلقا بالقهوة, وأكثر محافظة على تقاليدها. إن الشاعر الذي تعود من ابنه نجدته بالقهوة, ولكن صعوبة المواصلات والتواصل لم يمكن الابن من الوفاء بعادته, والفراغ الذي يعانى منه الشيخ يعجل باستهلاك القهوة, ومهما حاول بذل الجهود لتوفيرها إلا أن الكساد الذي كانت تعانى منه كل أنحاء الجزيرة لم يسعف الشاعر لقضاء حاجاته ببيع بعض الثمار. إن هذا الوضع والموقف من عدم توفر القهوة سارع بانتشار الشيب في رأسه. وليس أمامه إلا أن يشكو الزمان.. وكم شكت الاجيال من تقلبات الزمان وأحواله.