لن أنادي على صبيحة. هذه ذبابة بائسة. من أين دخلت إلى هنا؟ الشباك الوحيد في غرفتي مغلق دائماً. صبيحة لا تترك منفذاً مفتوحاً، تقول لي: «الهدوء ألزم لك». ما عدتُ أذكر، قد تكون مرَّت سنتان من دون أن أزيح ستارة النافذة، أنظر للشارع المحاذي. أحياناً أكون مشغولاً في كتابة إحدى مقالاتي، فتدخل عليَّ ضجة مفاجأة. أضع القلم، أنقطع لبرهة عن الكتابة. تحملني الأصوات المتداخلة إلى صخبها وضجتها. أهمّ بالنهوض من مكتبي لأبعد الستارة، ورؤية ما يجري خلفها. أبقى لحظات معلقاً بين النهوض والبقاء جالساً، أرهف السمعَ، أهمس لنفسي: «أبقى في كتابتي أفضل». أحاول أن أطرد الضجة عني. تنبت رائحة الدخان في رأسي، أشتاق الى سيجارة بدخانها المتصاعد. تأتيني تحذيرات صبيحة المتكررة، فأنفخ دخان صدري، وأعود أنكبّ على الكتابة. من أين دخلت هذه الذبابة البائسة؟ صبيحة تنظف ستائر غرفة مكتبي صباح كل يوم خميس بعد خروجي من البيت. تنفض عنها ما علق بها من غبار. تعرفني لا أطيق ضجيج المكنسة الكهربائية، ولا يحتمل صدري ذرات الغبار المتطاير. «هيا، توكل على الله». تخاطبني، تحثني على الخروج. أكون للتو أنهيت اغتسالي، وتكون قد جهّزت لي الدشداشة والغترة والعقال وكذا الجوارب والحذاء اللامع. تقف تراقبني بينما ألبس. وفي كل مرة، تمدُّ يدها ترتّب من وضع الغترة والعقال فوق رأسي. تخطو إلى جانبي، وقبل أن أخرج تبخّرني، وتعطرني بدهن العود وتودعني: «في أمان الله». تحذرني: «التدخين يضرّ صدرك». أغلق الباب، أضع نظارتي الشمسية، استقبل الهواء، وتخفّ خطوتي أركب سيارتي. آخذ طريقي إلى «المقهى الشعبي» قرب شاطئ البحر. ألتقي صديقي أبا صالح. أكثر من عشرين سنة، وأنا وهو نجتمع على الموعد نفسه. من يصل قبلاً، يأخذ طاولة الركن الصغيرة بمواجهة البحر، يجلس بانتظار صاحبه. في أحيان كثيرة، نطأ عتبة المقهى في اللحظة ذاتها. نتبادل السلام والتحية. نردد على بعضنا: «صبّحك الله بالخير». نجلس نجتر أخبارنا الصغيرة، وأخبار الجرائد ونشرات أخبار التلفزيون، وربما قراءاتنا الجديدة، وذكريات أيامنا الماضية. وتهزني النشوة لحظة يطلب أبو صالح الدومينو. حينها يرتفع صوته، يسألني بخبثه المحبب: «تأخذ سيجارة؟». أنظر إليه، يبتسم، ويكمل مشجعاً: «سيجارة واحدة في الأسبوع لا تضر. ما عليك من أم العيال، تفضل». يمد يده بالسيجارة. أتناولها مسروراً، أسحب نفسي الأول، وأطلق الدخان وصوتي: «ستنالك اليوم هزيمة ساحقة». أنفض دشداشتي أكثر من مرة قبل أن أركب السيارة. أنزل زجاج النوافذ كي تخرج الرائحة. لكن، وفي كل مرة، أشعر بصبيحة وكأنها تختبئ خلف الباب، تفتحه أمامي لحظة ألمس الجرس. تستقبلني كما ودعتني، وصوتها: «حياك الله». وما تلبث أن تطلق آهتها: «لا حول ولا قوة إلا بالله». أفهم أنها تتكلم عن رائحة السيجارة، فأتركها وأهرع إلى مكتبي، فيلحقني صوتها: «نظّفت الغبار عن المكتب والكتب». أرد عليها شاكراً: «تسلمين». أسرع الى مكتبي وكتاباتي، وكأني غبت عنها دهراً. سأتأخر بسبب هذه الذبابة، لم أكمل مقالي الأسبوعي بعد. نصف ساعة كاملة مضت، والذبابة لم تزل تشاغلني، تشوّشني... لا أدري من أين دخلت؟ تحوم فوق رأسي. ما عدتُ قادراً على التركيز أو الكتابة. ربما عليَّ أن أنادي صبيحة... لن أناديها، سأتخلص وحدي من هذه الذبابة البائسة. أين هي منشّة الذباب البلاستيكية الصفراء؟ رأيت صبيحة آخر مرة تضعها تحت رف المكتبة. لن أنادي عليها. لا داعي لأن أصبح معتمداً عليها في كل شيء. سأعالج الموضوع. لأترك الكتابة قليلاً، أبحث عن المنشّة أولاً. منذ تقاعدتُ من عملي، وجلست في البيت، تغيّر شيءٌ في علاقتنا، لجأت أنا للقراءة والكتابة، وتولت هي إدارة وترتيب كل أمور البيت. تبقى مشغولة طوال الوقت دون أن أسمع حسها. اكتفيت أنا بالعيش في عالمي، بين القراءة والكتابة وسرقة التدخين وسماع الأخبار. صرنا نحيا معاً وأقل القليل من الكلام. لا أذكر أن صبيحة قصّرت معي في يومٍ. ها هي المنشّة. أين الذبابة؟ يجب عليَّ تسليم المقال غداً صباحاً للجريدة، أخشى أن أتأخر. أين اختفت الذبابة؟ ما عدتُ أسمع طنينها. لابد أنها لاذت بزاوية ما. لن تستطيع مغادرة الغرفة. نسيت إلى أين وصلت في المقال. عليَّ أن أبدأ قراءة الموضوع من جديد حتى أستطيع إكماله. أحياناً أعجب لصبيحة، لا تكاد تهدأ، تدور وتدور كالماكينة، منذ أن تستيقظ، وإلى أن تأوي لفراشها. رفضت أن تأتي بخادمة للبيت. أختها أم ناصر تقول لها ضاحكة: «أشك أنك امرأة كويتية». صبيحة تعمل بصمت ونظرة جد تحتل وجهها. ابنتنا ريما تزوجت وانتقلت لبيت زوجها، وسافر ولدنا شهاب مع زوجته إلى كندا لإكمال دراسته، وبقينا وحدنا، أنا وهي. لا أعلم أنا شيئاً عن شؤون البيت، أستيقظ في السابعة، أقرأ جريدتي الصباحية مع فنجان القهوة، بعدها تبدأ هي تحوم حولي تستعجلني. فأنهض أخلع عني دشداشة النوم، وألبس دشداشة العمل. تمشي معي، فأدخل إلى مكتبي، توصيني قائلة: «لا تقضِ الوقت في القراءة، عليك أن تكتب، ولا داعي لسرقة التدخين». تغلق الباب ورائي. أبلع تنبيهها بجملتها الأخيرة، ولا أرد عليها. أخذ مكاني خلف مكتبي، أبدأ بالقراءة قبل الكتابة. لا أدري كيف يمضي الوقت. فجأة أجدها تقف أمامي. يُخيل لي أحياناً أنها تخرج لي من تحت المكتب. تنتصب بهيئتها ويدها الممدودة، تأتيني بعصير البرتقال وقطعة «الكيك». أحياناً يدور ببالي أخبرها أنها تفزعني بانبعاثها المفاجئ. مراراً فكرت أصارحها بأن اهتمامها الزائد بي يربكني، ودائماً أشعر أن شيئاً يصدني. عاد طنين الذبابة المزعج. سأنتظر لحين تحطّ بقربي، فأسدد لها ضربة واحدة، بعدها أنادي على صبيحة، فتأتي مفزوعة كعادتها. أطلعها على المفاجأة. أشير إلى الذبابة المسكينة، لترفعها هي بورقة «الكلينكس». تنظف مكانها. أين ولّت ذبابة البؤس؟ المنشّة في يدي، ما عدت أحتمل. أرفف المكتبة تلفّ حوائط الغرفة، محشوة بالكتب. ربما صار علينا أن نضيف أرففاً جديدة، سأكلم صبيحة لترتب الأمر مع النجار. سأتأخر عن كتابة مقالي. منذ بدأت الكتابة للجريدة، ما تخلفت يوماً عن موعد تسليم مادتي. ذبابة صغيرة بائسة، ما هذه الورطة المزعجة؟ لأضع المنشّة جانباً، أتجاهلها أعود للكتابة. أبدأ مجدداً بقراءة الموضوع. «اللعنة». رجعت تحوم بطنينها فوق رأسي، أين المنشّة؟ ها قد حطّت، لأختر الوضعية المناسبة، لا أريد أن أضيع هذه الفرصة. «ذبابة صغيرة ومؤذية». عادت تطير. سألاحقها. لن أكفّ عنها. تحطّ على الكتاب. «اضرب». تفلت مني. أين ولّت؟ «اضرب». سأبقى أجري خلفها. «اضرب». لا بدَّ أن أقع بها، تقترب من الباب، لأتركها تحط. سأعطيها الآمان ريثما ألتقط أنفاسي. من أين جاءت؟ مؤكد أنها دخلت من طريق الخطأ، حين أحسّت بصمت المكان، ما استطاعت احتمال الحبس. لماذا أعاقبها؟ لم تطق البقاء مسجونة هنا، تريد الخروج الى ضوء الحياة. لن أقتلها. سأعينها على الخروج. لأزح الستارة، وأفتح النافذة. * كاتب كويتي