بلا أدنى تهويل أو مبالغة، يمكن القول بأنّ الواقع السياسي العالمي سوف يشهد انقلابا دراماتيكيا على مستوى العلاقات بين الدول، في ظلّ مشروع «قانون العدالة ضدّ رعاة الإرهاب»، المعروف اختصارا ب«جاستا JASTA»، الذي أقرّه مجلسا الشيوخ والنوّاب الأمريكيان ورفض فيتو أوباما عليه، والذي يسمح لعائلات ضحايا هجمات 11 سبتمبر مقاضاة الدول التي تورّط رعاياها في علميات إرهابية داخل أمريكا أمام المحاكم الأمريكية. فهذا القانون بصيغته المطروحة، وديباجته المعلنة لا يعدو أن يكون حالة من «شرعنة الابتزاز»، بطريقة تجافي أسس البحث عن العدالة، والأعراف المتبعة في التقاضي وإحقاق الحقوق؛ بما يترك خلفه أسئلة قلقة، تبحث عن الهدف من وراء القانون، أكثر من بنود القانون نفسه. فمن غير الخافي أن هذا القانون المطروح والغٌ في مستنقع السياسة حتى أذنيه، ودالة ذلك تبدو واضحة في تشريع قانون ليحاكم واقعة مضى عليها زمن ليس بالقصير، ليتم التعامل معها بأثر رجعي يستهدف الدول التي ينتمي إليها الآثمون، وهنا يكمن الخطر المحدق، والخبث المفخخ، حين يربط سلوك فرد ينتمي لدولة ما، وإلصاق ما يقوم به من جرائر بالدولة نفسها، إلى غاية أن يراها القانون راعية له، ويصبح التشريع المنتظر بنظر المشرّع الأمريكي «قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب»، وتذهب الأعراف الدولية المتبعة، والجهود المبذولة دوليا أدراج الريح، طالما أن «إرهابيا» واحدا يمكن أن يغدو – بنظر «جاستا»- ممثلاً لدولته، فأي قانون «محترم» يمكن أن يقول بهذا الخطل المأفون، وأي نوايا مفخخة يتستّر بها المشرّع الأمريكي، بخاصة وأن القانون يكاد يذهب إلى تحديد المستهدف به؛ وهي المملكة العربية السعودية، استنادا إلى غلبة رعاياها المشاركين في أحداث 11 سبتمبر. إن مضي أمريكا وإصرارها في إنفاذ مشروعها المسيس يعني إعادة تشكيل الخريطة السياسية بعلاقتها الدولية على وعي جديد، ونهج ينسف ما تواطأت عليه الدول في ميثاق الأممالمتحدة، ليغدو العالم ما بعد «جاستا» جماعات في قطع جغرافية تأتمر بأمر أمريكا، وتخضع لسلطان قوانينها التي تصكّها وفق حالتها المزاجية، ورغبتها في تشكيل العالم تبعا لرؤيتها الأحادية، بما يمكن أن نشير إليه دون تحفظ بأنّه «حالة من الاستعمار الجديد»، و«سلوك ابتزازي بالدرجة الأولى». وما يعمّق من هذه الرؤية أن القانون نفسه، وفي سعيه لتطمين الرأي العام الأمريكي الذي شكّك في إمكانية تنزيله إلى أرض الواقع، أعطى الرئيس الأمريكي حق الفيتو، بحسب ما أشار كورتيس برادلي، مستشار القانون الدولي لدى وزارة الخارجية الأمريكية، الذي أوضح أن «مشروع (جاستا) يختلف عن صيغة مشروع القانون الأولى، ويتيح للرئيس حق التدخّل لدى المحكمة لتعليق أي دعوى قضائية ضد دولة أجنبية اتهمت برعاية الإرهاب، شريطة أن يبدأ مفاوضات مع حكومتها»، مرتئيا أن ذلك «سيكفل للرئيس الحالي (أوباما) أو من يخلفه تعليق أي دعوى قضائية قد ترفعها عائلات الضحايا ضد أي دولة أجنبية، والدخول في مفاوضات معها على مستوى الحكومة». وهذا ما رفضه مجلس الشيوخ الأمريكي بمصادقة الغالبية على هذا القانون الذي ينزع الحصانة السيادية عن أي دولة أجنبية ويسمح بمقاضاة السعودية في المحاكم الأمريكية في خطوة غريبة لا تتفق وجهود المملكة في محاربة الإرهاب مما يجعل هذا القانون «فزّاعة» ترفع في وجه الدولة المتهم رعاياها بارتكاب جرائم إرهابية، ويغدو أمر الصفح عنها، أو تجريمها رهنًا ب«مزاج» المحاكم الأمريكية وقضاتها، إلى جعلها «ورقة» سياسية يتم بها إخضاع الدول، وتركيعها لتظل أسيرة في فلك السياسة الأمريكية وابتزازها المستمر. إن قانون «جاستا» المطروح من قبل الإدارة الأمريكية الحالية، والإيهام بحالة الاضطراب حوله في الساحة السياسية الأمريكية، يجب أن ينظر إليه، ويتعامل معه بكثير من الجدية والحزم الفوري، فليست الدول «مقاطعات» أمريكية، كما أنه يفتح بابا جديدا لمحاكمة الأحداث التاريخية القديمة بتشريعات جديدة، تتعدى ما درج عليه المجتمع الدولي بتقديم اعتذار، في أقصى تجليات الاعتراف بالخطأ، إلى المطالبة بالمحاكمة والتعويض، وإذا كان الحال كما ينشد «جاستا»، فإن الدَّيْن الأمريكي سيكون كبيرا متى ما سنّت اليابان قانونا مماثلا يطالب بمحاكمة الولاياتالمتحدة جراء ما اقترفته من جرم كبير في هيروشيما ونجازاكي، وما قامت به من جرائم إنسانية في حق الأفارقة الذين استعبدتهم زمنا واسترقتهم في مشهد يندى له الجبين الإنساني، وقبل ذلك ستكون مطالبة بالمثول أمام القضاء لتسديد دين السكان الأصليين من الهنود الحمر، وما جرى لهم من تطهير عرقي، وما فعله الكاوبوي في العراق وأفغانستان وسوريا والقائمة تطول، والحبل على الجرار..