تردد أخيراً، عقب فشل الانقلاب العسكري في تركيا (15 يوليو الماضي) مصطلح الدولة أو النظام الموازي (Parallel Regime).هناك، أيضاً.. وهذا غير بعيد عن التجربة التركية أيضاً، ما يُطلق عليه الدولة العميقة (Deep State). بصفة عامة: كلا المصطلحين كثيراً ما يتردد في التحليلات السياسية حول ما يحدث من تطورات غير تقليدية في شكل ومضمون الأنظمة السياسية لبعض المجتمعات، التي حدثت بها هزات عنيفة قادت لإحداث تغييرات جذرية في أنظمتها السياسية.. أو تلك التي لم تنضج بها قيم ومؤسسات التداول السلمي للسلطة، بعد. وإن كان مصطلح التنظيم الموازي - مع الفارق - موجود في الأنظمة الديمقراطية، في ما يعرف بحكومات الظل (Shadow Governments)، بريطانيا، على سبيل المثال. قد يكون من المفيد لفهم كلا المصطلحين، الإشارة إلى مفهوم ثالث، أيضاً يرتبط بآلية تداول السلطة، خاصة في المجتمعات الأقل استقراراً وعهداً بالممارسة الديمقراطية، ألا وهو مفهوم الثورة المضادة (Counter Revolution)، الذي يعني: أن حدوث تطورات غير تقليدية وما ينتج عنها من تغيير مؤقت أو انتقالي في منظومة السلطة لا تعني بالضرورة أن الأمور استتبت للنخب الجديدة، بل محتمل جداً، أن تعود النخب القديمة التي استهدفتها الهزات العنيفة أو ما يسمى الثورات للحكم، مرة ثانية. كلا المصطلحين: الدولة الموازية أو التنظيم الموازي، والدولة العميقة، يهدف إلى غاية سياسية واحدة: الاستعداد التام لملء فراغ السلطة أو محاولة الاستيلاء عليها، عند أية فرصة مواتية، سواء باستغلال حالة عدم استقرار للنظام القائم نتيجة لصعوبة ما يواجهه في السيطرة على زمام الأمور، بسبب اضطرابات سياسية أو اجتماعية أو أوضاع اقتصادية صعبة.. أو عن طريق محاولة القفز بالقوة للاستيلاء عنوة على السلطة، باستخدام المؤسسات العسكرية والأمنية في الدولة. وفي كل الأحوال تكون الدولة العميقة أو التنظيم الموازي مرتبطين بمؤسسات مدنية أو عسكرية رسمية، لها علاقة بالسلطة وترتبط معها بعلاقات سياسية متينة ومصالح مشتركة واسعة، مثل: البيروقراطية والقضاء والجيش والشرطة.. أو غير رسمية مثل: منظمات المجتمع المدني من أحزاب هشة، وجماعات ضغط عديمة الفاعلية، ومعارضة زاهدة أو آيسة في الحكم،.. وكذا شبكات واسعة من المصالح المعقدة بين اقتصاد الدولة وقطاع الأعمال الوطني والخارجي... بالإضافة إلى قوىً دولية وإقليمية لها مصالحها الخاصة في إحداث تغييرات جذرية في قيم ومؤسسات السلطة بالدولة المعنية. مثل هذه الدولة العميقة أو التنظيمات الموازية تطورت في الثقافة والممارسة السياسية في تركيا، بصفة خاصة، وبعض بلدان الشرق الأوسط.. وهناك أشكال منهما في باكستان والعديد من الدول العربية وأفريقيا ودول أمريكا اللاتينية، التي خبرت حكم العسكر لفترات طويلة... بالإضافة إلى مجتمعات في دول شرق أوروبا مثل رومانيا والمجر وأكرانيا وكازخستان، حيث تجذرت الدولة العميقة فيها لعقود، بفعل حكم الأحزاب الشيوعية. لقد أصبحت تلك الأنظمة التقليدية التي يحكمها العسكر، ولو من وراء حجاب، والتي خضع بعضها لنظام الحزب الواحد غير المنافس لعقود، قادرة ليس فقط على إحباط محاولات التغيير، بأي وسيلة كانت، بل أيضاً العودة إلى الحكم لو اضطرت للخروج منه موقتاً، بفضل استثمارها الطويل في أصول الدولة العميقة، بما فيها من إمكانات لتطور أنظمة موازية، التي قد تدعم جهود العسكر للعودة للسلطة، من أجل الاقتراب من حلم الوصول لمؤسسات الحكم، حتى ولو كلّف ذلك، لاحقاً، مواجهة مباشرة مع العسكر، التي لا مفر أن تكون حتمية، في مرحلة تاريخية لاحقة، من التطور السياسي للمجتمع. بالتالي: كلا المصطلحين الدولة العميقة والتنظيم الموازي، عادة ما يقبع في ظهير الصورة الكلية للنظام السياسي القائم، في تلك المجتمعات التي لم تتطور فيها بعد ممارسة ديمقراطية مستقرة، على أهبة الاستعداد للانقضاض على السلطة أو استعداداتها، في لحظة حاسمة من الصراع العنيف عليها، إما بآلية الثورة المضادة.. أو عن طريق استعادة زمام الأمور، من قبل رموز ومؤسسات نظام الحكم القائم، بخطط و«تكتيكات» لمواجهة أي محاولة عنيفة، وغير دستورية للاستيلاء على السلطة. ما حدث في ليلة الانقلاب الأخير الفاشل في تركيا، لا يعدو كونه نموذجا «كلاسيكيا» لصراع سياسي عنيف حاسم بين حكومة منتخبة قائمة، وتنظيم موازٍ، حاول الاستيلاء على السلطة باستخدام جزء من المؤسسة العسكرية والأمنية، في ما قَدّرَ أنها لحظة تاريخية مناسبة لجني عائد استثمار سياسي واجتماعي -طويل ومكلف- في مؤسسات الدولة العميقة، للاستيلاء على السلطة، ومن ثم تطبيق سياساته ورؤاه والإتيان برموزه لحكم البلاد. في المقابل: لم تكن طموحات وتخطيطات ومؤامرات التنظيم الموازي بعيدة عن أعين وآذان مؤسسات الحكم تلك الليلة. كما كان التنظيم الموازي يهدف من الانقلاب العسكري، وضع نهاية عنيفة لصراعه السياسي مع النظام الديمقراطي القائم في أنقرة تلك الليلة، كانت مؤسسات ورموز الحكم القائم نفسها، في انتظار مثل هذا النزال العنيف مع التنظيم الموازي للتخلص منه، مرة واحدة وللأبد... وهذا ما تمثل في الانقضاض العنيف على رموز الانقلاب العسكري الفاشل مع حاضنته السياسية والاجتماعية والمالية، التي تمثلها مؤسسات ورموز التنظيم الموازي، بزعامة الداعية عبدالفتاح غولن. باختصار: لا يعني أن تقوم ثورة أو انتفاضة شعبية، ولا حتى إقامة نظام ديمقراطي جاء إلى السلطة بإرادة الناس وخياراتهم أن الطريق أضحى ممهداً لرموز النظام الجديد أو القائم للاستمرار في الحكم. يبدو الأكثر احتمالاً: أن كل ثورة تلد ثورة مضادة تخرج من رحم الدولة العميقة.. وكذلك كل نظام حكم قائم، بغض النظر عن مصدر شرعيته، هناك تنظيم مواز، يطمع في الحكم أو يطمح للوصول إليه، بكافة الوسائل غير المشروعة، إذا ما أعيته الوسائل المشروعة، خاصة في المجتمعات التي لم تتطور لديها، بعد، مؤسسات وقيم ممارسة ديمقراطية ناضجة ومتينة، مثل: تركيا. [email protected]