مع أن تلك الجريدة التي كنت أتصفحها، تعد من أقل الصحف اليومية توزيعاً وانتشاراً، إلا أنني ذهلت بحق حين لاحظت حجم الإعلانات المنشورة فيها، والتي تصدر من محاكم التنفيذ تحت عنوان (إبلاغ بأمر تنفيذ)، وذهلت أكثر عندما أحصيتها ووصل عددها في صفحتين متقابلتين إلى 40 إعلاناً، تتضمن رقم القرار واسم الشخص المطلوب وعبارة نمطية تعلن من خلالها الدائرة التنفيذية عن صدور القرار الموضحة بياناته، ولتعذر تبليغ المنفذ ضده جرى الإعلان للإبلاغ، وفي حالة عدم التنفيذ خلال خمسة أيام من تاريخ النشر سيتم اتخاذ الإجراءات النظامية!! لم يمض سوى أسابيع قليلة على حضور هؤلاء الناس أمام المحكمة المختصة وصدور أحكام نهائية بحقهم، والآن حين يتم رسم كروكي جديد لمقرهم إضافة إلى تحديده بالأقمار الصناعية، ويطلب من محكمة التنفيذ إبلاغهم بأمر التنفيذ، تدعي بأنها لم تجد لهم أي أثر، هل يعقل هذا الكلام؟! وكلنا نعرف بأن هؤلاء الناس المطلوبين مازالوا يسكنون في نفس البيوت، ويستقلون سياراتهم الخاصة، ويذهبون لأعمالهم كل صباح، مازالوا يتسوقون ويتمشون ويمارسون حياتهم العامة بشكل طبيعي، كيف يتعذر إذن إبلاغهم وكيف تعجز محكمة التنفيذ عن الوصول إليهم؟! قبل 17 سنة، كان يمكن لصاحب الحق أن يلجأ مباشرة إلى الحقوق المدنية، ليتم على الفور إحضار الشخص المطلوب، فإذا أقر بما عليه سدد مباشرة أو تم إيداعه الزنزانة، أما إذا اعترض فتحال للمحكمة وفور صدور القرار بحقه يتم طلبه ليحضر أمام الحقوق المدنية ويلتزم بالتنفيذ، اليوم أضيفت جملة من الإجراءات الروتينية والطويلة، حيث يجب على صاحب الحق اللجوء للمحكمة، وإذا صدر له حكم بعد كم سنة، يعد له ملف جديد ويقدمه لمحكمة التنفيذ، وهنا تحدث المفارقة الغريبة التي لا يمكن لي أو حتى لك عزيزي القارئ فهمها أو حتى استيعابها!؟ المفارقة، هي أن محكمة التنفيذ تقوم بإبلاغ المحكوم عليه، وغالباً ما ينتهي الإجراء بتعذر تبليغه، بعدها يتم نشر إعلان إبلاغ بإحدى الجرائد، ولعدم اكتراث المحكوم عليه بهذا الإجراء، يتم إصدار أمر إيقاف خدماته، ولأن المحكوم عليه كان لديه الوقت لتجديد بطاقاته وأخذ احتياطاته، فقد تمر سنة دون أن يتأثر، وفي الأخير وبعد هذه اللفة الطويلة تقوم المحكمة بإصدار أمر حبس، وإحالة المعاملة للحقوق المدنية (ما كان من الأول) ولن أبالغ إن قلت لكم إنه باتصال واحد من الموظف المختص يحضر المحكوم عليه صباح اليوم التالي لينفذ الحكم خوفاً من الفرقة والغرفة!؟ ظاهرة اختفاء الناس المطلوبين أمام محاكم التنفيذ، بهذه الملابسات الغريبة والظروف الغامضة، أعادت إلى ذهني تلك القصص الخيالية، التي كنا نسمعها عن اختفاء الطائرات والسفن التي تمر على (مثلث برمودا) الكائن بالبحر الكاريبي قرابة سواحل فلوريدا، فهل السبب يعود لإعصار وتيارات البيروقراطية، أم لفيضانات وزلازل معاملات التنفيذ المكدسة، أم لأسباب أخرى؟ إننا في أمس الحاجة لفك هذا اللغز المحير، والحمد لله أنني لم أكمل يومها قراءة بقية الصحف الرائدة، فقد تجذبني تلك الإعلانات المهولة إلى أعماقها وأختفي مثل بقية الناس!!