الوزارة في السعودية واحدة من الوظائف الجذابة المغرية والحساسة أيضا، خاصة في هذه الأيام مع علو صوت وسائل التواصل الاجتماعي، وقرب صناع القرار من هذه الوسائل، واستطاعتهم الوصول لهمومهم ونبضهم ومطالبهم، وردود فعلهم على أداء وزرائهم. في الغالب أكثر الذين شغلوا منصب وزير يتمتعون بصفات رجال الدولة والإدارة، إضافة لقدرات ومعارف أخرى قد لا يراها أو يلاحظها الأناس العاديون، بقدر ما يراها صانع القرار ويوظفها لخدمة الدولة والشعب. من أكثر الوزراء شهرة الشاعر والإداري المحنك غازي القصيبي، الذي عين في بداية حياته العملية رئيسا للسكك الحديدية ثم وزيرا للكهرباء، ووزيرا للصحة، ليغادر الوزارة محملا بالتجارب اللطيفة والصعبة إلى البحرين كسفير، ثم ممثلا وسفيرا في المملكة المتحدة، ليعود بعد عشرين عاما من تركه كرسي الوزارة لتولي منصب وزارة في المياه، وأخيرا وزيرا للعمل حتى اختاره الله لجواره. وقصص القصيبي مع الإدارة ممتعة ووثقها في كتابه الشهير حياة في الإدارة، وفي بعض قصائده التي روت حكايات الوزراء مع المنصب، وثقله ووهجه وخفوته عنهم، وكشفت في جزء منها أيضا عن تلك العلاقة الفريدة بين الوزير ومجتمعه وموظفيه ورؤسائه. وعادة ما يلاحظ الوزراء ثراء علاقاتهم مع الناس خلال فترة الوزارة، وانحسارها عنهم فور مغادرتهم، فقد كان لأحد الوزراء الذين تقاعدوا من مجلس الوزراء قبل سنوات صالون أسبوعي يعقده كل مساء أحد، يستقبل فيه أصدقاءه، وأصدقاء أصدقائه ومعارفهم، وكل من كان يحاول أن يبني علاقة مع الوزير، أو يريد أن يخترق دوائره الإدارية في يوم ما. صالونه كان يغص بالزائرين، الذين يحرصون على القدوم مبكرا للحصول على كرسي متقدم قبل أن يضطروا للوقوف في آخر المجلس، فذلك السبق قد ينبئ الحضور بحظوتهم أو قربهم من معاليه. صديقنا الوزير غادر وزارته فجأة، فإذا بصالونه الأسبوعي يتحول إلى شجرة خريفية يتسابق ورقها للهروب وليس السقوط فقط، ولم يتبق إلا بضع أوراق مخلصة تمسكت بغصون الشجرة ورفضت فك محبتها وعلاقتها بها. «مولانا» الوزير فوجئ بعد سنوات، إثر صدور قرار تعيينه في منصب رفيع آخر، بعودة كل تلك الوجوه «الكالحة» التي غادرت مجلسه ذات يوم، وغص مجلسه من جديد بالمهنئين والمصادقين مرة أخرى، وكأنهم لم يغادروا صديقهم الوزير هكذا بلا مروءة. في المقابل، يتذكر البعض فجأة أن الوزير الذي تم تعيينه بالأمس، كان زميلا أو صاحبا ذات يوم، نفس الأشخاص سيبذلون الغالي والنفيس لتهنئته ومجالسته، وهم كانوا إذا رأوه تحاشوا لقاءه، وتعاونوا على أن لا يدخلوه في أنديتهم الضيقة. بالتأكيد وظيفة الوزير ليست بالأمر الهين، ولا يستطيع أن يفهم تعقيداتها وهمومها وأسراراها ودروبها الوعرة إلا كل ذي حظ عظيم، ولذلك فكل الذين يجهزون مشالحهم وينشرون الشائعات عن التغييرات الوزارية المرتقبة دائما، ويمنون أنفسهم بكرسي الوزارة، هم أبعد الناس عنها وعن ملامسة كرسيها الوثير. المهم فيما سبق أن لا يستعجل الناس في الهروب من الوزراء والمسؤولين السابقين، فالعلاقات الإنسانية لا تقاس بالمناصب، ودوائر الأيام حبلى بالمفاجآت، ولعل من تستهين بهم اليوم يصبحون مسؤولي الغد، ومن تقاعد تعيده الأيام وزيرا أو مسؤولا كبيرا، وتصبح نادما على صالونه ومحبته وصداقته التي هجرتها دونما سبب.