التقيته في أجواء العيد، وقد أتيته مسلّما مهنئا فشكى اليّ مرارة تباعد الأصدقاء والمقربين المحسوبين عليه وصمت هاتفه وغبار صالونه. وقد كان يشكو في سالف الزمان من تدافع الأصدقاء والناس من حوله ومحاصرتهم له في كل مكان. كان يعتب ويعجب ولم يكن يتألم فهو رجل عاقل خبر الدنيا وخبرته وهو يعلم أن أصدقاء الوظيفة لن يستمروا بعدها. وأكثر ما أحزن صاحبنا أنه منذ ترك "المكان" ومعظم من كان يرعاهم بعطفه الإداري ووجاهته الاجتماعية منشغلون عنه حتى أن بينهم كثيرين ممن ظنّوا عليه بزيارة تهنئة في يوم العيد. هذا هو حال "كرسي" الوظيفة العجيب الغريب فهو أشبه بقضيب مغناطيس يجذب المنتفعين على أطرافه، وحينما يفقد الكرسي جاذبيته بتقاعد صاحبه من أو أعفائه من مسئولياته تنفصل الجاذبية بمن فيها لتتوه في الأجواء بحثا عن قطب مغناطيسي جديد. وتحكي قصص التاريخ قصة "ابن مقلة". وقد كان خطاطا بارعا ووزيرا عند ثلاثة خلفاء. وقد أشتهر "ابن مقلة" بين الناس وذاع صيته وبطبيعة الحال فقد كثر خصومه وحساده حتى انّهم تمكنوا من الوشاية به عند الخليفة بعد أن زوّروا كتابا زعموا أن "ابن مقلة" هو من حرّره، فكان أن غضب عليه الخليفة وأمر بقطع كفّه الأيمن. ولما أتى يوم العيد و"ابن مقلة" الحكيم على حاله طريدا وحيدا في داره يتفكّر كيف خلا بابه ومجلسه من الزوار والمهنئين الكثر على غير عادة، وماهي إلا سويعات من صباح يوم العيد حتى تكشّفت المؤامرة أمام الخليفة فبادر الى إعلان براءة وزيره واعتذر له وقرّبه فكتب "ابن مقلة" - وهو الخبير بالناس وأحوالهم - على باب داره هذه الأبيات: تحالف الناس والزمانُ.. فحيث كان الزمان كانوا عادانيَ الدهرُ نصف يوم ... فانكشف الناس لي وبانوا يا أيها المعرضون عني ... عودوا فقد عاد لي الزمان ويخطئ من يظن أن أصدقاء الوظيفة هم ذاتهم اصدقاء النائبات، فللوظيفة لمعانٌ ولوهجها بريق يخطف عيون أصحاب المصلحة ومحبي الوجاهة. يروي موظف كبير حاله بعد أن ترك الوظيفة لفترة وكيف وجد مجلسه ونفسه وحيدا إلا من نفر قليل من أصدقاء الشباب والكفاح، في حين ابتعد عنه بعض من كان يعدّهم في دائرة الأصدقاء ممن أشتهر بين الناس فضله عليهم وكثرة تودّدهم اليه. يقول صاحبنا ومن عجيب أحوال بعض من عرفني بهم كرسي الوظيفة الكبيرة أن أناسا أسأت لهم وآخرين لم أكن ألقي لهم بالا ولم أكن أجاملهم ظلوا يبادرونني بالزيارات والدعوات حتى بعد ان تركت المكان وتخلت عني "مكانة" الكرسي. ويكمل صاحب القصة بحسرة كيف تغيّر الحال بعد أن عاد الى العمل في وظيفة "أهمّ" وكيف تكرر المشهد وعادت ذات الوفود والوجوه تتلّون بالأعذار وكأن شيئا لم يكن، ولكن صاحبنا بطبيعة الحال كان أكثر استيعابا لدروس الحياة هذه المرّة. *مسارات: قال ومضى: لا يتعلم من كانت أخطاؤه سلوكه، وعذره يلوكه.