المثبطون.. الممتعضون.. جماعة (لكن).. الباحثون عن السلبيات قبل الإيجابيات. أعداء التغيير، الذين لا يصدر منهم سوى أنين التذمر، وعبارات الإحباط، ولايعرفون للتفاؤل نافذة، راكضين في بحر التشاؤم والتشاؤل! كلما أقبلت البلاد على تغيير وتطوير، وقبل أن يتأملوا مدى جدواهما، وفرص نجاحهما، وما إذا كان تغييرا إستراتيجيا مفيدا على المدى الطويل، يبدأون مهمة تكسير الزجاج في الممرات. ويبدو أن لدى بعضهم إحباطاً مزمناً، وبمرور الزمن وجدوا لأنفسهم مبررات لإقناع أنفسهم بمنطقية تشاؤمهم، بتكرار عبارات ليست هناك إستراتيجية وطنية؛ لا يوجد مشروع سياسي؛ كلفة التغيير ستكون باهظة. وها هي رؤية «السعودية 2030» تمتحن أولئك المحبَطين المحبِطين؛ إذ جاءت بمشروع اقتصادي واجتماعي واضح، تحدثت عنه صحف العالم، والمنظمات الدولية المعنية بالتنمية وشؤون الاقتصاد الدولي. فقد قررت السعودية، بدفع أفكار ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، أن تتخلى عما سماه الأمير محمد بن سلمان «إدمان النفط» أو ما يسميه البعض «الله لا يغير علينا». وقررت أن تتخلى عن الاستثمار التقليدي لثروتها بإنشاء أضخم صندوق للثروة السيادية، الذي سيكون بمستطاعه شراء أكبر أربع شركات في العالم، من دون أن تنفد أمواله. وقررت أن تحقيق النأي عن الاعتماد على النفط سيتطلب تغييرات في التعليم والخدمات الصحية. كما قررت أن نجاح رؤيتها للمستقبل يتطلب أن تكون كلمة السر في الأداء الحكومي ومؤسسات الأعمال هي «الشفافية»، فأطاحت بذلك كل «مقدسات» العقود الماضية، حين لم يكن مسموحا بالحديث عن مكانة النفط بالنسبة لميزانية الدولة، وحين كانت المؤسسات التي تقوم بتوليد ثروة المملكة تنعم باستثنائها من شرط الشفافية، وفي صدارتها شركة أرامكو السعودية، وصندوق الاستثمارات العامة. هذا الشعور المدمر بالإحباط، والسوداوية، والخوف من تحول الأمر الواقع إلى واقع جديد، ظل باقيا في نفوس تلك الفئة من المتشائمين حتى بعدما انتهجت المملكة سياسة خارجية جسورة، تبدت في المواقف السعودية الصارمة لحكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز تجاه أمريكا وإيران، وقرار المملكة الذهاب في الطريق الذي تراه سليما من دون انتظار ضوء أخضر من أحد، مستعينة برصيدها من العلاقات الوثيقة مع العالمين العربي والإسلامي، وهو ما حدا بها إلى إقامة التحالف العربي لإعادة الشرعية والاستقرار لليمن، والتحالف العسكري الإسلامي لمحاربة الإرهاب. وهو مشروع أوضح من الشمس، لكن أولئك ما برحوا يتساءلون في غباء: أين «المشروع السياسي»؟. لا نقول إن السعودية دولة مثالية لا مثيل لها، وخالية من العيوب والأخطاء، فذلك شأن الأمم أن تخطئ وتصيب. لكن من الخطأ على أولئك المتخاذلين أن يغمضوا أعينهم عن الحضور القوي للسعودية في المشهد الدولي، الذي يتمثل الآن بدولة سعودية مقدامة في سياستها الخارجية، وواعية الثقوب في سياساتها الداخلية، وقادرة على إعمال مبضع الجراح لإزالة تشوهات أدائها الاقتصادي، وابتكار حلول خلاقة لمشكلات مواطنيها، وشجاعة في مواجهة العلل في أنظمة التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، أملاً بإيجاد مستقبل لا يكون رهينة لتقلبات النفط، وليس عرضة لتأثير الأزمات المالية العالمية. وتكمن في هذا الجانب أهمية، بل حتمية رؤية «السعودية 2030». وهي - بمنتهى الصدق والأمانة - لم تكن أملا بلا ألم. ولن تكون غير محفوفة بالمصاعب والتحديات، لأن حجم التغيير كبير، بل جذري، إذ لا بد أن تواكبه إعادة صياغة للإنسان السعودي، حلماً بالقضاء على مشكلات البطالة، وتشوهات سوق العمل، وأزمة السكن، وزيادة عدد النساء ضمن القوى العاملة، واستغلال القدرات الكبيرة لتراثنا الحضاري والثقافي، وتحقيق أقصى الفوائد من مواسم الحج والعمرة والزيارة، وتقليص الظل الإداري للبيروقراطية التي لا يعرف أحد كم تكلف السعوديين من خسائر. ويمكننا القول إن «رؤية 2030» ليس فيها مكان للذين أدمنوا لفظ «لكن» ليعبروا عن إحباطهم، ويحبطوا الآخرين. بموجب هذه الرؤية ينتظر أن يكون السعوديون «ورشة عمل» في جميع أرجاء بلادهم. ورش لا تهدأ، كل فيما يليه من مسؤولية وواجبات، وستحرص الدولة على حقوق مواطنيها، من دون تفرقة. ولا نقول اليوم إنها دولة نموذجية تمنح الحقوق كاملة غير منقوصة، وهو بالطبع واجب على الدولة أن تقوم به، وتحرص أيضاً على تدبير حلول ناجعة لأي تأثير «غير إيجابي» على مواطنيها، خصوصاً تأكيدات خادم الحرمين الشريفين مراراً أن التنمية الشاملة نصب عينيه، وأن الاهتمام براحة المواطنين يتصدر أولوياته. ومن هنا نستطيع أن نفهم محاولات معالجة تأثير سياسة إزالة الدعم للوقود المحلي، والمياه والكهرباء في ذوي الدخل المتوسط والمحدود. ولا بد من القول إن الاتجاه إلى اعتماد منح المسلمين والعرب من العاملين في المملكة «البطاقة الخضراء» (غرين كارد) سيعطي هذه الشريحة المهمة من الأشقاء دافعاً جديداً، وحافزاً قوياً للعطاء، ومشاركة المواطنين مسؤوليات البناء والإنماء والتحول. وسيتيح هذا المشروع إلغاء «نظام الكفيل» الذي عجزت الحكومات السعودية المتعاقبة عن القضاء عليه. وبموجبه ستكون السعودية «أرض الفرص الكبيرة»، كما هو حال الدول الاقتصادية الكبرى المنفتحة على العولمة والتجارة الحرة. والأكيد أن المتشائمين لن تنفد ذخيرتهم من التشاؤم والإحباط وتسويق السوداوية وترديد «لكن»، غير أن الحقيقة أحق بأن تقال: السعودية اختطت الآن خطاً فاصلاً بين ماضيها وحاضرها، ورسمت أفقاً لمستقبلها. والمواطن مطالب اليوم بأن يدمج نفسه في هذه الرؤية، غير هياب من تخبط المحبِطين، لأنها إنما أعدت من أجله، ومن أجل أجياله المقبلة، لتبقى وطناً آمناً مزدهراً قادراً على حماية نفسه، ومضاعفة دخله من صادراته غير النفطية.. والنفطية أيضا.. ولا عزاء لكل المحبطين والمسوقين للسوداوية وأولهم جماعة (لكن!).