استكمالا لما بدأناه في الأسبوع الماضي حول رحلة الأسترالي ألن فاليرز على متن البوم الكويتي «بيان» بقيادة النوخذة «علي بن ناصر النجدي». نضيف أن هذا الأخير ولد في الحي الشرقي من الكويت ابنا لعائلة نزحت من نجد في 1860 تقريبا، ونشأ في أسرة معروفة بحبها للبحر، فجاب البحار لاحقا وغاص على اللؤلؤ وساهم في بناء سفن العائلة قبل أن يترك البحر في 1953 ليعمل في وزارة الداخلية حتى 1976 حينما تم تعيينه مختارا لمنطقة كيفان. ومما يعرف عنه أن الحنين إلى البحر عاوده في 1972 فقاد سفينة شراعية من دبي إلى الهند محملة بألف طن من البضائع، ثم كرر المحاولة باتجاه كراتشي فتعرضت سفينته إلى خلل أدى إلى غرقها مع بضائعها، لكنه صارع الأمواج ونجا من الموت بأعجوبة. غير أن الموت كان بانتظاره في فبراير 1979 حينما ذهب مع اثنين من رفاقه في رحلة صيد على ظهر قارب، فغرق القارب بسبب الأمواج الشتائية العاتية، وغرق هو معه، إذ لم يستطع إنقاذ نفسه بسبب سنه المتقدمة آنذاك، وبعده عن الشاطئ. وصفه فاليرز في (الصفحات 65 67) بعد لقائهما الأول في مكتب آل الحمد بمدينة عدن بالعبارات التالية: «كان رجلا قصير القامة، ناحل الجسم، له وجه قاس لم تتمكن هجمات الجدري من تشويهه، وشارب أسود قصير حسن الترتيب، وأنف كأنف الصقر، وذقن واضحة المعالم». بدا فاليرز سعيدا وهو يغادر ميناء عدن باتجاه المكلا، مسافرا على متن المراكب العربية التي هي، طبقا له، آخر ما تبقى من سحر الشرق القديم لأنه «لم يبق غير العرب متمسكين بمراكبهم الشراعية، يبحرون بها عباب البحر الواسع بنفس الطرق والأساليب القديمة». في رحلة عودة فاليرز من إبحاره الطويل، توقفت السفينة في عدد من الموانئ الأفريقية والعمانية، كما مرت بمحاذاة عدد من مرافئ جنوب فارس، قبل أن تتجه نحو المنامة، بدلا من الكويت، اضطرارا بسبب هبوب الرياح الشمالية فجأة. تلك الرياح التي أجبرت مجموعة أخرى من السفن الكويتية والإيرانية على الشيء نفسه. ويشاء الله أن تكون تلك الرياح نعمة على النجدي وسفينته لا نقمة! وتفسير ذلك هو ما أورده فاليرز في (ص 455) ونصه: «لم يمض على وصولنا (إلى البحرين) إلا ساعات قلائل، حتى كنا قد بعنا جميع حمولتنا من خشب البناء، كما لم تجد المراكب الأخرى أية صعوبة في التخلص من حمولاتها أيضا، وذلك لأن عبدالعزيز بن سعود ملك المملكة العربية السعودية كان قد زار المنامة قبل مدة وجيزة وترك تعليمات مع أحد الوسطاء المحليين بأن يشتري حمولة 20 مركبا من الأخشاب الصالحة للبناء. فقد كان الملك قد بدأ برنامجا لإعمار مدينة الرياض ومدن أخرى في مملكته، بعد أن زادت موارده زيادة محسوسة من بيع النفط». عبارات إنجليزية محرفة وسجل فاليرز الكثير من المشاهد والمواقف والمعلومات، التي بدت له غريبة ومحيرة، خلال سفره على ظهر السفينة «بيان». أول هذه المشاهد كان استخدام البحارة في تعاملاتهم اليومية لكلمات من اللغات السواحيلية والفارسية والهندية، ناهيك عن استخدامهم لعبارات إنجليزية بشكل محرف مثل النداء بأعلى صوتهم بعبارة «فول سبيت» وأصلها «Full Speed» وقت الأمر بقيادة السفينة بأقصى سرعة، ومثل وصف السفينة بقولهم أنها «فصميل»، والمقصود أنها تشبه في سرعتها مراكب البريد السريع العاملة في منطقة الخليج العربي والتي كانت تسمى «Fast mail liners». وأولى المعلومات التي كانت مدعاة سرور شخصي له هو أن وجهة السفينة لم تكن محددة تماما. بمعنى أنها قد تبحر إلى كل أو بعض بنادر شرق أفريقيا، من تلك التي لم يسمع الرجل بأسمائها من قبل وسمعها لأول مرة من النوخذة النجدي، وأن الأمر في النهاية يعتمد على الأحوال الجوية المؤاتية. صندوق لكل فرد من طاقم السفينة ومن الأشياء الأخرى التي اكتشفها فاليرز أنه كان مسموح لكل فرد من طاقم السفينة أنْ يحمل معه صندوقا واحدا من البضائع لكي يبيعها في الموانئ لحسابه الخاص، فكان البحارة يستدينون مبلغا في حدود 10 20 روبية من النوخذة لهذا الغرض، ثم يحتفظون بصناديقهم على جانبي مؤخرة المركب، وكلما توفر لديهم وقت تفحصوا بضائعهم واطلعوا بعضهم بعضا عليها، وكل واحد منهم يمني النفس بجمع أكبر قدر من الأرباح من وراء تلك البضائع المنوعة البسيطة مثل العطورات الفرنسية الرخيصة والعمائم الملونة والقوارير الحافظة للحرارة (الترموسات) والمصابيح العاملة على البطاريات وآلات الحلاقة وغيرها من السلع التي كانت تلقى رواجا في أوساط الصوماليين والزنجباريين. بعد 12 يوما في البحر وصل فاليرز إلى المكلا، مرفأ حضر موت الرئيسي الذي اعتاد الحضارمة على الانطلاق منها صوب جاوه والهند وأفريقيا والعودة إليها بعد تجوالهم ومغامراتهم التجارية وجمعهم للمال. لسبب غير معلوم طال انتظار فاليرز للإبحار من مرفأ المكلا، فانتهز فرصة حلول عيد الميلاد ليخرج من المركب لأول مرة ويتجول في المدينة، فوصفها وصفا كاد أنْ يقول فيها أنها مدينة كوزموبولينية، بمقاييس ذلك الزمن طبعا، مناقضا رأيه السابق فيها. إذ كتب (بتصرف) في (ص 123) ما يلي: «كانت شوارع المكلا تعج بالأغراب الوافدين من كل صوب، يرتدون ملابس زاهية من كل نوع ولون. فكان هناك التجار الهنود المتجولون بسراويلهم الفضفاضة الشفافة، واليمنيون بإزاراتهم وعمائمهم، والبدو بملابسهم السوداء وأجسادهم المطلية باللون البني وهم يقودون جمالهم الضخمة المحملة بالبضائع، والبحارة الإيرانيون والصوماليون والكويتيون والعمانيون، إضافة إلى أجناس أخرى تجري في عروقهم دماء الشرق، فهم إما أنصاف ماليزيين أو أنصاف أتراك أو أنصاف باليين (نسبة إلى جزيرة بالي). ويفسر لنا فاليرز وجود هؤلاء المختلطة دمائهم فيشير إلى أنهم ثمرة من ثمار هجرات الحضارم إلى بلاد بعيدة واقترانهم بنساء تلك البلاد ثم عودتهم إلى وطنهم مع ذريتهم. لقاء السلطان وبينما كان الرجل يجلس مع عبدالله (أخو النوخذة) على أحد مقاهي المكلا يحتسي حليب الماعز المعطر، تصادف دخول «مستر أنجرامر» المستشار البريطاني المقيم في حضرموت الذي أخذه معه في سيارته إلى داره حيث قضى وقتا سعيدا وتناول طعاما جيدا. ويبدو أن المستشار الذي كان مشغولا آنذاك بتنفيذ مشروع شامل للطرق لأول مرة في تاريخ حضرموت باتجاه شبام وأماكن أخرى، وسط معارضة من البدو الذين كانوا خائفين من التأثير السلبي للطرق المعبدة على أعمالهم في نقل البضائع بواسطة الجمال لم يكتف باستضافته. فقد قاده في إحدى الأمسيات إلى قصر السلطان. وحول هذه الجزئية يقول: جلسنا مع السلطان في حجرة يسمع منها صوت البحر، وكانت طريقة الخدمة والملابس والأطباق كلها أوروبية أكثر منها عربية، بل أن السلطان نفسه كان أقرب إلى الهنود منه إلى العرب. وكان في العقد الخامس من العمر، ولكنه كان يبدو متعبا مما جعله يبدو أكبر سنا مما هو عليه فعلا. وقد جلس على كرسي أوروبي على رأس مائدة كبيرة مرتديا طربوشا ومعطفا هنديا طويلا. بعد المكلا اتجهت السفينة، وهي محملة بالبضائع وأعداد كبيرة من الركاب الذين التقطهم النجدي لإيصالهم إلى الموانئ الأفريقية بأجر غير معلوم، صوب ميناء الشحر السيىء والخطر (بحسب وصف فاليرز)، ومنه إلى ميناء حيفون على الساحل الصومالي حيث وقع نظر فاليرز على «أكواخ سكنية للإيطاليين، وقرى صومالية قذرة على امتداد الشاطئ»، وحيث ارتاب فيه الإيطاليون معتقدين أنه لورانس جديد جاء ليتجسس لحساب بريطانيا. ومن حيفون إلى مقاديشو «التي يغلب عليها الطابع الإيطالي رغم كونها مستوطنة عربية لعدة قرون واحتضانها لحي عربي وجالية عربية كبيرة ومسجد ضخم رائع التصميم». وتستمر الرحلة بانطلاق السفينة من مقاديشو إلى ميناء «لامو» الكيني الذي يصفه فاليرز بالبلدة الجميلة، قبل أن يخبرنا أن «البلدة عربية خالصة، فالمباني والخلفية واللغة والعادات كلها عربية، ونصف الأكشاك في السوق يديرها العرب الحضارم». ومن «لامو» إلى ممباسا الميناء الكيني المرحب بسفن العرب والإيرانيين والهنود، حيث تعرض فيها فاليرز وركاب سفينته لكشف طبي دقيق خوفا من انتقال مرض الجدري «الذي كثيرا ما يخفي النواخذة عن السلطات الصحية انتشاره بين بحارتهم». ومن ممباسا إلى زنجبار، الجزيرة التي كانت تتوق إليها أفئدة العمانيين من ركاب السفينة «بيان»، التي استقبلتهم بالأهازيج وقرع الطبول. عن زنجبار كتب فاليرز في (ص 311 312) ما يلي: «لقد وجدت مدينة زنجبار مكانا لطيفا، إذا ابتعد المرء عن رائحة السمك المتعفن قرب الميناء». مضيفا «لم يكن في زنجبار شيء يعجز البحارة عن القيام به. فقد كانت بالنسبة للعرب والآسيويين الآخرين مدينة مفتوحة على مصراعيها». كانت وجهة السفينة بعد زنجبار هي دلتا نهر روفيجي في تنجانيقا (تنزانيا). يصف فاليرز هذه المنطقة، التي بقي فيها شهرا كاملا، بأنها مكان سيىء يفوق التصور، بسبب احتضانها لكل أنواع وحوش الغابة وجميع الأمراض. أهازيج البحارة.. مدمدمة كهدير سرب من الطائرات بما أن فاليرز كان حريصا على تدوين كل شيء والتعليق عليه فقد توقف طويلا عند الغناء والرقص اللذين كان يمارسهما البحارة على سطح المركب. ولأنه كان قادما من ثقافة غربية، وبالتالي معتاد على سماع فنون طربية مغايرة، فإنه لم يستسغ رقصة «الزفان»، وعدّها غريبة ولا تناسب المناخ السائد وفاقدة لأي معنى تعبيري. حيث قال (بتصرف) في (ص 74): «كان البحارة في أثناء غنائهم، لا يستطيعون ضبط أعصابهم عند سماعهم إحدى المقطوعات المؤثرة من المغني الحزين، فينفعلون ويهبون واقفين، ويفرقعون أصابعهم، ويهزون أجسادهم بعنف شديد ثم يستبد بهم الحماس فيقفزون قفزات عالية في الهواء، ويستديرون وهم في الهواء، ثم يعودون إلى أماكنهم وهم يضحكون من الأعماق وكأنهم مجموعة من الأطفال الأبرياء المرحين». وبالمثل فإن فاليرز لم يطرب لصوj العود والطبول، ولا لصوت المؤدي، وإنْ أعجب وأثنى على صوت «المراويس» التي قال عنها كانت «طبولا صغيرة جدا، أسطوانية الشكل، مصنوعة من فخار البصرة، مشدودا على كل منها قطعة من جلد الماعز المسخن .. وقد أخذ البحارة يتناوبون على قرعها، مستخدمين أصابع الإبهام والأصابع الأمامية». وإذا كان هذا هو رأي البحار الأسترالي في رقصة «الزفان» وموسيقى «الصوت الخليجي»، فإن رأيه في أهازيج البحارة المصاحبة لعملية التجديف الجماعي كان مختلفا تماما. إذ قال عنها في (ص77): «لقد كان تجديفهم ممتازا، وكانت أهازيجهم أفضل من أغانيهم، وعندما لم يكونوا يهزجون كانوا يصدرون من أقصى حناجرهم أصواتا عميقة مدمدمة كأنها هدير سرب من الطائرات قاذفات القنابل القادمة من بعيد. وكانوا يجدفون بانتظام كأنهم في احتفال رسمي». عندما تتكسر الأمواج عند أقدام الجبال في (ص 53) كتب الأسترالي ألن فاليرز قطعة أدبية في وصف عدن وهو يبحر من مينائها فقال: «حول خليج المعلا تنتصب جبال عدن القاحلة الوعرة، حارة ومكفهرة، كما لو كانت قد صممتْ ووضعتْ في ذلك المكان عن عمد لتمنع رياح المحيط الباردة من الوصول إلى مياه الخليج. وعبر الخليج الضحل كانت الرمال تبدو سرابا غريبا كأنها موج يتكسر على أقدام سلسلة الجبال الساحلية، وكأنما البحر قد ألقى بها هناك وانصرف متخليا إلى الأبد عن أية محاولة عقيمة لتبريد الصخور الصماء الصلدة وترطيبها .. كانت السماء زرقاء صافية، قاسية في صفائها، والشمس حارة محرقة، والرمال داكنة قذرة، ورائحة الشاطئ عفنة نتنة. وكانت الكلاب السائبة تتراكض خارجة من الأكواخ البائسة وهي تنبح، ولكنها سرعان ما تصل إلى حالة من الاعياء الشديد فتكف عن النباح. كما كانت الماعز تثغو وضروعها المثقلة باللبن مغطاة بأكياس من القماش لكي لا ترضعها صغارها الجائعة. كما كان الأطفال يصرخون وهم يتراكضون طلبا للإكرامية (البقشيش)، وكأنهم لا يعرفون من اللغة كلمة غيرها. وعلى طول الطريق المؤدية إلى حي (كريتر) كانت الجمال الداكنة اللون تتهادى شامخة تجر عربات صغيرة أو تنتظم فارغة في قافلة يسير بمحاذاتها بدوي يرتدي أسمالا زرقاء بالية وهي متجهة إلى لحج أو إلى أودية اليمن السحيقة. وعلى جانبي الطريق كانت تقوم تلك البيوت الحجرية المتشابهة التي يسكنها الصوماليون الوافدون من (بربرة) المجاورة، وكان عددهم في حي الميناء يزيد على عدد العرب أنفسهم. ثم يتوقف فاليرز ليخبرنا أن هذا المشهد هو من 1938 أي السنة التي كانت فيها عدن على وشك الاحتفال بمرور قرن على الاحتلال البريطاني لأراضيها، مذكرا القارئ بأن «عدن هذه التي كانت فيما مضى ملتقى للشرق والغرب ولم تزل مرفأ عربيا ودوليا مهما، هي الآن قاعدة عسكرية متقدمة للامبراطورية البريطانية، ومركز لتزويد السفن البخارية القادمة من الشرق الأقصى وأستراليا بالوقود». * أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين