يعتبر القرن الثاني الهجري أخصب القرون الإسلامية فكرا ومعرفة بعد هدوء الفتوحات الكبرى، وربما لأنه من القرون المفضلة ظهر فيه الأئمة الأربعة إضافة للحسن البصري وابن سيرين ومسدد بن مسرهد أول من صنف مسندا للحديث الشريف مبتكرا علم التوثيق، فازدهر علم الفقه. معرفيا ظهر الفراهيدي واضع علم العروض، وجابر بن حيان الملقب بأبي الكيمياء، غير أن ظهور علم الكلام، برغم إضافته الفلسفية، حرف المسار وكاد يمزق فرشة فكرية كان يمكن أن تساهم في المعرفة البشرية وليس الإسلامية وحسب، فاقتصر الأمر في مساهمات فردية لعظماء في تاريخنا لكنها لم تستمر كمدرسة فكرية لهذا العالم أو ذاك. فقهيا ختم الأمر بكتاب «الأم» للشافعي المقعد لأصول الفقه، ما تلاه كان إما تفريعا أو تهميشا أو إعادة إنتاج لمعرفة قديمة بين تشدد وغلو أو إفراط وتفريط، حتى انتهى إلى ما يشبه تجميد أو غلق باب الاجتهاد. في العلوم الأخرى ظهر على التتابع الكندي والخوارزمي وابن سينا وابن الهيثم، وبعد مخاض طويل أطل ابن رشد والغزالي والرازي، فابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، وختم عصر النوابغ بظهور ابن خلدون أوائل القرن الثامن. بعدها عاد الجمود مشكلا القطيعة الفكرية الكبرى لأسباب داخلية ذاتية وأخرى خارجية أهمها الغزو الصليبي والمغولي وآخرها الأوروبي الاستعماري. السؤال المؤرق كيف تفرعت الاختلافات الفقهية إلى مدارس اجتهادية وإن لم تنتج معرفة جديدة حقيقية، وفي ذات السياق كيف لم تنم على ظلال العلوم الأخرى امتدادات علمية تؤسس لواقع علمي جديد؟ أهو التفريق بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية، أم أن الانشغال بأمر الآخرة ألهى عن أمر الأولى؟ هل نسينا زرع الفسيلة، حسب توصية نبينا الأكرم عليه السلام، حتى يوم القيامة الكبرى، أم تناسينا أن نعمل لدنيانا كأننا سنعيش أبدا ونعمل لآخرتنا كأننا سنموت غدا. ابن رشد وابن خلدون، كلاهما اختار قومه دفن علمه وكلاهما اختارت أوروبا أخذه لتبني عليهما حضارتها الحديثة، لم تكن خصومتنا مع الأجنبي لتقدمه وعلمه، بل بدأت كخصومة مع العلم ذاته. ابن حيان والخوارزمي وابن سينا وابن النفيس، وكثير غيرهم على امتداد تاريخنا كان يمكن أن يكون لهم امتداد معرفي يؤسس علما يقود الأمة للمساهمة في المعرفة العالمية وتراكماتها، بل ويقودها بحكم أقدميته، اختار محيطهم إسقاطه لانشغاله بأمور الآخرة وتفريطه في أمور الدنيا، برغم معرفته اليقينية أن إعمار الأرض فريضة دينية، وهي لا تعمر بغير علومها.