هذه الحادثة حدثت في لندن.. المدينة التي يرتادها المطر والغرباء يتجولون فيها كقمر من الياسمين حيث البيوت العتيقة.. مدينة القرميد الأحمر والزنبق الأحمر والضحكات المعلقة على الكرز.. مدينة تستطيع أن تقتنص الابتسامة من وجه أي حزين.. مدينة تحول صحراء العمر إلى واحة فرح.. لندن يذهب إليها البشر ليقبضوا على فراشات السعادة الطائرة في الطرقات المفروشة بالحجر المعسل نحن نذهب إلى لندن «ليبصق كل منا على الآخر» للأسف.. وهاكم القصة التي ليست هي من ضرب الخيال.. الخيال على وجه العموم لا يحتاجه الإنسان إلا عندما يكون فقيرا من الواقع وواقعنا مليء بما يكفي من أحداث تجعلك تحس أحيانا أنك تنتمي إلى عصر القوارض الخشبية والتجمعات الديناصورية.. كنت أجلس مع حفيدي «آدم» في أحد مقاهي أشهر شوارع العرب ارتيادا... كانت بجوارنا فتاتان عربيتان في منتهى اللطف الإنساني تتحدثان مع «آدم» وتداعبانه.. فجأة أحسسنا برذاذ خفيف يغطي وجوهنا وأذرعنا وأعناقنا.. حفيدي الذي لم يكمل عقد الطفولة التفت إلي مستفسرا عن مصدر الرذاذ ..لوهلة فكرت أن أخبره بالحقيقة للتو وأنا بالكاد أستوعب في الوقت الذي كانت عيناي تلاحقان السيارة التي عدت بسرعة بمحاذاة المقهى في محاولة يائسة لتبين ملامح ركابها الملتحين وهم يرتدون برؤوسهم إلى الداخل.. أحسست بارتباك شديد وهذا حالي عندما أتعرض لموقف مفاجئ فإن علائم الارتباك سرعان ما تظهر على صفحة وجهي وفي أعماقي رغم السنون كلما شاهدت منظرا يخدش الحياء.. كنت مثل نهر مرت عليه دواب وقطعان وحوافر أحتاج إلى فترة من الزمن حتى تهدأ الرمال ويترسب الحصى في داخلي.. لملمت بعثرتي وأخذت أتساءل لماذا يقدم شباب مسلمون على البصاق على فتيات مسلمات في شارع عمومي؟ والحق لم تكن الفتاتان ترتديان ملابس مثيرة ولا تضعان مساحيق تجميل ملفتة.. وكيف يتجرأ شخص مهما كانت انتماءاته الفكرية والإيديولوجية على البصاق على إنسان حر آخر.. هل ما زلنا نعيش عصور ضرب الجارية على قفاها وشتمها في السوق.. يا ترى لماذا لما يمنح البني آدم فرصة الخروج من محيطه الضيق إلى محيط أوسع يختار الدونية اللاواعية؟.. الفتاتان مسحتا البصاق بشالين ملتفين حول رقبتيهما.. تركتا مبلغا على الطاولة وتركتا المقهى وبسمة سخرية على شفتيهما تمتزج بدموع غامضة.. سيان عند النمر أن يصبح جلده حذاء نسائيا أو يعلق في صدر القصر بعد أن يقتل ولقد قتلهما المفلوتون وعلى الملأ ..كل مشاعري تحنطت.. كل الأصوات كتمت.. كل الآمال مزقت.. أدركت في قعر فاجعتي أنني أحتاج إلى دهر كامل لفك لغز ما حدث ودهر آخر لتحمل فكرة أن «البصاق» هو تعبير عن رأي أو موقف.. هذه واحدة من اللحظات الكثيرة التي احتجت فيها إلى عقلي فعلا.. كل أمة من غير إحساس تثبت أنها أمة على طريق الهاوية والانهيار.. منظر يجعلك تنفر من نفسك كمسلم ومن العالم أجمع كما ينفر الطائر من الرصاصة.. أفعال اللاشعور هي في علم النفس أفعال الإنسان وتصرفاته التي يقوم بها بصورة آلية عن غير وعي وهي تعبير عن العقل الباطني التي تحرك الكوامن الذاتية للفرد.. لقد أثبت لي ذلك التصرف المهين أن هناك عوامل ظرفية تحيط بالإنسان منذ تشكيله الجيني توثر عليه طوال حياته وحتى مماته ..ليس وجود المرء في بيئة ما يعني بالضرورة أن هذا الشخص قد أصبح انعكاسا حرفيا لعقلية الحضارة المتطورة التي يعيش بين ظهريها.. الإنسان مفرز لبيئته أينما ذهب وأينما انتقل ..أناس يعانون من عقد نفسية متوارثة لا ينفع معهم لا عقار ولا طب.. الأقمار الصناعية والمختبرات الفضائية تصل إلى الزهرة والمريخ ونحن نبصق على نسائنا في شوارع عواصم العالم.. إحساس لا يوجد أي عزاء يعوض ما دفنه في نفسي من حزن.. سحبت «آدم» من يده برفق وهمت معه في طرقات لندن كنت أنظر خلسة إلى الشرفات العالية أتطلع إلى سنابل التاريخ البريطاني المتحضر أمامي وعليها قطرات من «لعاب» المسلمين.. شعور مضن بالخيبة واليأس الذي يولد الرغبة بالانكفاء والعودة إلى حيث يمكنني أن أنام لأنسى؛ «فندقي»، وأطرد عن مخيلتي ما حدث.. لم يجد كوب الحليب الدافئ ولا التفكير في مستقبل أمتي.. ولا حتى عد الخراف اللامنتهية.. قمت من السرير.. أشعلت النور نظرت إلى نفسي في المرآة وضعت نظارتي الطبية وكررت النظر إلى نفسي فقد أكون مريضا.. مسني غضب فأطفأت جميع الأنوار.. اشتقت أن أنام ..عدت لأستلقي على السرير تقلبت يمينا وشمالا.. نمت على بطني.. على ظهري عدت لمحاولة النوم دون جدوى ظللت أبحث عن أي سبب يعيق نومي.. فاجأني حفيدي بسؤال هل هناك ما يزعجك يا جدي؟ ارتسمت على فمي بدلا من الابتسامة الصافية التي كانت تحتلني لتحل محلها ابتسامة من نوع آخر.. ربما تكون ابتسامة أكثر من حزينة.. لازمت الصمت.. وأنا في أمس الحاجة للبوح.. الصمت ثاني أعراض الانفجار.. بدا جليا علي وأنا أقول له أبدا يا حبيبي كنت أفكر فقط في المستقبل الذي ينتظرك.. تبسم لي ابتسامة طفولية وهو يردد لا تقلق يا جدي المستقبل بيد الله.. ونعم بالله يا آدم.