تناول العريفة بو منصور عشاه بعد المغرب (دغابيس وشوربة بلسن). صلى العشاء مع الجماعة وعاد للمنزل، وطلب براد الشاي من حمدة زوجة ابنه البكر (جارالله) التي كانت عماد البيت تخدم الصغير والكبير وتعنى بكل تفاصيل المسراح والمراح. وضعت صحنا يحتوي براد (أبو أربعة) وفنجال ماركة العقال، واستأذنت من عمها لتنصرف للنوم. طلب منها أن تنتظر شقيق زوجها الذي سرح يسد الكظامة ويحتاج من يرتب له عشاه. ردت أبشر يا عم. جلست بجوار الملة واستندت بظهرها على الزافر تغالب النعاس. كان أحد الكلاب ينبح بصوت مخنوق كأنه يندب والعريفة يردد (بعمرك.. بعمرك) كون العواء فألا غير حسن. تجاهل النباح وأدار محرك مؤشر الرادي على أمل أن يشنف سمعه بصوت عبداللطيف الكويتي (سقاني من كرم فيه)، إلا أن المذياع كان مبرمجا على صوت العرب فانطلق صوت أحمد السعيد يشرح تفاصيل حادثة منشية البكري ومحاولة اغتيال عبدالناصر. كان معتنزا فقعد وصاح (قطع الله إيد اللاش)، أصغى للتفاصيل. دخل ابنه حمدان مرهقا فأشار لحمدة أن ترتب لقمة وجغمة له وتذهب لنومها. كان أبو منصور منتميا لقريته وقبيلته ووطنه دون تعصب وتكاد تكون القرى والقبائل على ذات المنهج، فالوطن مقدس وهو قبل المال شقيق الروح كونه جمع من شتات وأغنى من عيلة وأمن من خوف. إلى أن جاءت الثمانينات فانقلب الحال. اجتاحت القرية موجة عارمة من تدين شكلي فقط (لحى وثياب إلى منتصف الساق ورفع شعار «حرام» وترويج مصطلح الأمة). دخلت القرية في حرج، فالنساء لزمن البيوت، والأمهات الكبيرات والبنات الصغيرات اكتسين السواد من أخمص القدمين حتى أطراف الأنامل إلى قمة الرأس، والمزارع تولتها عمالة وافدة فشحت مواردها. لم يكن من السهل على أبي منصور أن يستجيب لهذه الشعارات والشكليات التي لا تأكل ولا تشرب معه. ما يعنيه أن يحافظ على ثقافة الإنتاج والشراكة في القرية. تعرف على المحرك الرئيس لهذه التقليعة التدينية (وافد عربي)، تسلل إلى حجرته القابعة في طرف القرية، فزع (مصطفى) وقال: ( عاوز إيه يا عمدة)؟ للحديث بقية. وسلامتكم.