دعا سفير بريطانيا السابق لدى السعودية جون جنكنز - في مقال نشرته مجلة «سبكتاتور» البريطانية - إلى فهم طبيعة التحديات والمخاوف التي تواجه السعودية قبل المسارعة إلى إدانة إعدام 47 مدانا بالإرهاب. وأكد أن السعودية عاقدة العزم على تنفيذ أحكام محاكمها ضد أي شخص يدان بزعزعة استقرار البلاد، بغض النظر عن مذهبه، وأن المملكة أرادت أن تؤكد لمواطنيها بأنها لن تتهاون مطلقا في مقاومة التوسع الإيراني، وفظائع «داعش». وزاد: إنها أرادت توجيه رسالة إلى العالم مفادها أنها لن تنحني بوجه العواصف التي تجتاح المنطقة، مؤكدا أن التحديات التي تواجهها السعودية حقيقية وموجودة، وليس مبالغا فيها. تنشر «عكاظ » في ما يلي ترجمة لمقال السفير جنكنز: يبدو أن كل شخص كان له رأي حول نمر النمر باعتباره رجل دين عادي، إلى أن تم إعدامه السبت (قبل الماضي). فما إن أعلن إعدامه، حتى تفجرت الموجات على الأثير. وقد طلب مني مرارا باعتباري سفيرا سابقا لبريطانيا في الرياض، لا يزال ناشطا في المنطقة، أن أدلي بتعليق. واقترح نك روبنسون، مقدم برنامج «توداي»، الذي تبثه هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، صباح الاثنين الماضي، أنه ربما يجب علي الكف عن شرح ما يدور بأذهان المسؤولين السعوديين، لأدلف ببساطة إلى إدانة الإجراء. إنني أتفهم النقطة الواردة في ذلك السؤال. لكنني ظللت حائرا منذ ذلك الوقت في ماهية ما تمت دعوتي أنا والآخرين إلى شجبه. هل هي حقيقة الإعدام، وطبيعته، وأن السعوديين لا يزالون ينفذون عقوبة الإعدام، وطبيعة نظامهم القضائي، وتوقيت تنفيذ الإجراء، والارتياب في أنه قد يقوض عملية السلام في سورية، ويثير غضب إيران؟ أم أنه ربما كل تلك الأشياء وأشياء أخرى؟. بيد أن الإدانة من دون تفهم لا جدوى لها. ليس كافيا أن نقول ببساطة إن ذلك نتيجة صعود نجم صف جديد من القادة غير ذوي الخبرة. والواقع أن الأسباب بالنسبة إلى السعوديين - والإيرانيين أيضا - هيكلية. فلتتأملوا السياق: تشعر السعودية - لأسباب مقنعة - بأنها مهددة الآن أكثر من أي وقت مضى في تاريخها الحديث، على الأقل منذ تهديدات مصر الناصرية في الخمسينات والستينات الميلادية. وينبع ذلك من خمسة مصادر: أولا - التحدي المتمثل في الجهاديين السنة، ثانيا - التحدي الأيديولوجي والمادي من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ثالثا - انهيار رقعة واسعة من أنظمة الشرق الأوسط في أعقاب الربيع العربي، رابعا - هبوط حاد في أسعار الطاقة العالمية، وخامسا - شعور بأن التحالفات التاريخية - خصوصا مع الولاياتالمتحدة ولكن ليس معها وحدها - أخذت تتآكل. إن هذه التهديدات حقيقة. وقبل عقد أو نحو ذلك شن من حلوا محل مهاجمي المسجد الحرام بقيادة جهيمان العتيبي، في عام 1979 وهم عناصر «القاعدة في شبه الجزيرة العربية»، حملة إرهابية داخل المملكة، بهدف تشجيع تمرد سني عام. وقد أبطأ السعوديون في تبين ما كانوا يواجهونه. وما إن انتبهوا لذلك، حتى بدأوا يحشدون طاقاتهم لسحق أولئك الإرهابيين بلا رحمة. وقد أعاد فلولهم جمع صفوفهم في اليمن، وهناك تآمروا وخططوا، وجندوا آخرين (بمن في ذلك الأمريكي أنور العولقي)، ونفذوا هجمات أخرى ضد أهداف غربية وسعودية. ونفذت أخيرا موجة من الهجمات التي ادعى مسؤوليتها «داعش»، خصوصا ضد أهداف شيعية، ولكنها طاولت أيضا قوات الأمن السعودية، ومسجدا سنيا في قاعدة عسكرية قرب الحدود اليمنية. والتهديد الإيراني ماثل منذ وقت طويل، لكنه تضاءل بمرور الزمن. فقد زعم آية الله الخميني أن ثورة 1979 ليست إيرانية أو شيعية فحسب، بل إسلامية وعالمية، وأنها جاءت لإنقاذ من سماهم فرانتز فانون «المعذبون في الأرض»، الذين يعانون على أيدي من يقمعونهم. وأشاعت طهران اضطرابا واسع النطاق في الكويت، والبحرين، والمنطقة الشرقية بالسعودية. وبرزت في أنحاء الشرق الأوسط جماعات من الثوريين الشيعة، بما في ذلك منظمة العمل الإسلامي، والثورة الإسلامية في شرق الجزيرة العربية، والجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، وحزب الله في الحجاز، والأكثر شهرة حزب الله اللبناني، وجرت محاولة لاغتيال أمير الكويت. وتم اختطاف طائرات كويتية. وهاجم انتحاريون سفارتي فرنسا وأمريكا في الكويت، والسفارة الأمريكية في بيروت، وثكنات الجنود الفرنسيين في بيروت. بيد أن ذلك كله هدأ في نهاية المطاف نتيجة الضغوط السياسية الدولية الصارمة. وشعر السعوديون بالارتياح عندما أصبح البراغماتيان علي أكبر هاشمي رفسنجاني وخاتمي رئيسين لإيران، لكن التجربة أكدت أن السياسة الأمنية تبقى بيد المتشددين (في طهران). وأعادت الشعبية الكارثية لمحمود أحمدي نجاد التهديدات بتصدير الثورة. وأكدت الاضطرابات في البحرين وبدرجة أقل في المنطقة الشرقية في عام 2011، للسعوديين أنه سواء ابتدأها الإيرانيون أم لا، فإن الإيرانيين سيكونون على الدوام متواطئين بإرادتهم في عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في الدول الخليجية السنية. وأثار قلق السعوديين بدرجة أكبر مساعي طهران للتوصل إلى تقارب مع حكومة محمد مرسي في القاهرة خلال عامي 2012 و2013، لأنها أثارت احتمال تحالف بين الإسلاميين الشيعة والسنة في أكبر بلدين مأهولين في المنطقة. ورأوا مزيدا من الأدلة على التهديد في الدعم الإيراني للمتمرد الحوثي في اليمن، واستيلاء عملاء إيران على رقعة واسعة من الدولة العراقية. وتسنم ذلك ذروته بتدخل إيران وحزب الله في صف نظام القاتل بشار الأسد في سورية. أسهم ذلك كله في إضفاء النعرة الطائفية على النزاع السياسي في الشرق الأوسط. وهو ليس نتاج سياسة حديثة للدولة السعودية، كما قال بعضهم. فكما رأينا من رد فعل الحكومة السعودية السريع والظاهر على الهجمات التي استهدفت مساجد شيعية داخل المملكة، فهي ترى أن الانقسام الطائفي الداخلي أمر يهدد الأمن الوطني. وهو أيضا ليس نتيجة حتمية لعداوات عتيقة (وهي فكرة كثيرا ما تقال). لقد ظلت إيران تزعم أنها حامية الشيعة منذ القرن الميلادي السابع عشر. وتعود الحجج حول تحديد الدور الذي ينبغي أن يقوم به الأئمة المجتهدون في تنظيم الدولة المؤمنة إلى ماض أبعد من ذلك. بيد أن ذلك كان يتعلق بالدفاع عن الحقوق الدينية، وليس السياسية. ويواجه السعوديون حاليا فترة انخفاض مستمر في أسعار الطاقة، في وقت ترتفع فيه بدرجة كبيرة تكلفة السياسة الخارجية، وأضحت فيه الحاجة ماسة لإعادة هيكلة الاقتصاد لخلق ما يصل إلى 4 ملايين وظيفة جديدة بحلول العام 2020. قد تعتقدون أن هذه مرافعة خاصة. ولكن قبل أن تقولوا إن الأمر يتعلق بنظام قضائي مضلل يصدر عقوبات من القرون الوسطى على المعارضين.. قبل أن تقولوا ذلك فكروا في ما يأتي: لقد دعا نمر النمر إلى تدمير حكام السعودية والبحرين، وانفصال المنطقة الشرقية، ونسخة الدولة الإسلامية العادلة التي يدعو إليها لا تبعد كثيرا عن نسخة أبوبكر البغدادي (وهي بلا شك بعيدة جدا عن براغماتية الدولة السعودية غير التكفيرية وغير القائمة على مبدأ الخلافة). لقد دعا إلى «ولاية الفقيه» أي بدعة وصاية الفقيه التي يعتنقها الخميني. لقد أرادت الدولة السعودية بإعدامها 43 سعوديا سنيا مدانين بالإرهاب ونمر النمر وثلاثة من رفاقه الشيعة، أن ترسل إلى مواطنيها الرسالة الآتية: سنقوم بتنفيذ أحكام المحاكم على جميع من يسعون إلى تقويض استقرار المملكة، وشرعية حكومتها، بغض النظر عن المذهب، ونيابة عنكم سنقاوم التوسع الإيراني، والافتراس الذي يمارسه تنظيم داعش بصرامة مماثلة. والرسالة السعودية إلى إيران هي: ولاء المواطنين السعوديين لمليكهم، وليس لزعماء دينيين أجانب، وليس لأي نموذج للإسلاموية العابرة للحدود. ولن نتحمل التدخل في شؤوننا. والرسالة السعودية لبقية دول العالم هي: لن ننحني بوجه العواصف التي تعصف بالمنطقة، حتى لو اضطرنا الأمر لأن نكون وحدنا في ذلك. حتى لو قبلتم بذلك كله، قد يدور بخلدكم أن إعدام النمر أمر تنبغي إدانته، باعتباره عملا رمزيا لوحشية الدولة، وأن الأمر يتطلب سياسة صبر. قد يكون ذلك موقفا أخلاقيا سليما يتخذه المرء، لكنه ليس سياسة. ومهما يكن فإن التفهم ينبغي أن يكون أولا. وإذا كنا نعتقد بأن جانبا كبيرا من سبب إقدام الدول على إجراءات صارمة هو الخوف الذي تعيشه، فإن القيام بشيء لمعالجة ذلك الخوف يمثل جزءا كبيرا من الإجابة. وفي هذه الحالة يتطلب ذلك بشكل رئيسي أن نظهر أننا نعني تنفيذ الصفقة النووية بكل جدية لا أن نترفع عن اتخاذ إجراءات إضافية ضد تجربة الصواريخ المثيرة للاستفزاز، لأن الإيرانيين لا يحبون ذلك (تلك هي النقطة)، ومساندة رئيس الوزراء حيدر العبادي في العراق في مسعاه للإفادة من النجاح في الرمادي، حتى يعيد شيئا فشيئا السنة المقصيين إلى الصف، ويخفض النفوذ الخبيث للميليشيات الشيعية، والدفع بقوة ضد التدخل الإيراني في البحرين واليمن، الذي قد يكون مبالغا فيه، لكنه موجود. إن أمن الشرق الأوسط لن يصلح نفسه بنفسه، ولابد للاستقرار من رعاة. لن يكون الأمر سهلا، إذ إن إيران دولة مهمة، وسيكون إعادة دمجها في النظام الدولي الإقليمي إنجازا ضخما. بيد أن ذلك الدمج يعتمد على الأعمال الإيرانية. وفي غضون ذلك علينا أن نعرف أين تكمن مصالحنا الحقيقية. إن لنا مصالح كبيرة جدا على المحك في دول الخليج السنية، ونظام الدولة في المنطقة سيكون أساسا لأي استقرار سياسي مأمول في المستقبل. ولذلك نحن بحاجة إلى الالتحام بالسعودية وغيرها من الدول للبحث عن حلول للتحديات التي تواجهها. لا يسعنا أن نكتفي بالتفرج، ونقف مكتوفي الأيدي ونقول إن المسألة مضطربة في كل حال وهو خطأ تلك الدول وحدها، ونقر بعد ذلك بأن العواقب أثارت استياءنا. * جون جنكنز سفير بريطانيا سابقا لدى المملكة العربية السعودية، وليبيا، والعراق، وسورية، وبورما. وهو الآن المدير التنفيذي في الشرق الأوسط للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية.