النقاش مع الدكتور حمد المانع وزير الصحة الأسبق ينكأ جراح قطاع حيوي كان وما زال مثيرا للجدل والانتقادات الساخنة، إلى درجة أنه أصبح «محرقة» لكل وزير يجلس على كرسيه الساخن ويعجز عن فك رموزه ومعرفة دهاليزه وأسراره. جاءت إجابة الوزير المانع صاخبة وموجعة، عندما أكد بأن الرؤية العامة للوزارة ما زالت غير واضحة، مشيرا إلى أن أي وزير يأتي من داخل قطاع الصحة أفضل ممن يأتي من خارجه. وأوضح المانع بأن الخيار الوحيد لحل مشاكل الصحة في المملكة مرتبط بتطبيق نظام التأمين الصحي على المواطن والمقيم والذي سبق له أن قدمه وأجهض بفعل فاعل. وأشار المانع في حواره مع «عكاظ»، إلى أن فترة 8 سنوات كافية لنجاح أي وزير إذا عمل في ظروف طبيعية، وامتدح المانع قرار تشغيل المختبر الوطني خلال فترة تكليف الوزير أحمد الخطيب، بعد أن أهمله الكثيرون. المانع الذي كتب سيرته الوزارية الصريحة في كتابه (لكم وللتاريخ)، كان أكثر صراحة وهو يفتح قلبه ل«عكاظ»، مشخصا واقعنا الصحي بجرأة قد تؤلم البعض وقد لا تعجب البعض الآخر. وإلى نص الحوار: دكتور حمد، كيف ترى الواقع الصحي الآن بعد تعيين ستة وزراء من بعدك؟ أنا أراقب الوضع بشكل يومي وأثق أن ولاة الأمر اختاروا الرجل المناسب للوزارة، ونجاح المهندس خالد الفالح في أرامكو يشهد به الجميع لكن الصورة حتى الآن في وزارة الصحة غير واضحة وأنا لا أعرف توجهاته ورؤيته المستقبلية، ويبدو أنه ما زال يدرس الأوضاع ويحتاج إلى فرصة ليظهر أثره كوزير. هل تراقب بشكل يومي وتكتب تقارير؟ نعم. لمن تكتب التقارير؟ لنفسي. لماذا لا ترفعها لولاة الأمر؟ لم يطلب مني ذلك. كم يحتاج الوزير القادم من خارج الوزارة ليعرف كواليس هذه الوزارة العنكبوتية؟ يعتمد الأمر على الوزير نفسه، فإذا دخل في دهاليز الوزارة ومشاكلها بسرعة فلن يحتاج إلى وقت طويل، أما إذا ابتعد وأعطى الصلاحيات لغيره فقد يحتاج إلى سنوات، وأنا أقولها من تجربة، الوزارة ليست بتلك الصعوبة التي يتخيلها البعض. كيف؟ أعتقد أن وزارة الصحة من السهل الممتنع فهي سهلة إن أردتها كذلك، وفي الوقت نفسه فهي وزارة صعبة ولها دهاليز وإرهاصات كثيرة جدا قد تستعصي على بعض الوزراء. إذن كان الدكتور غازي القصيبي محقا عندما قال: «وزارة الصحة محرقة للوزراء»؟ هذا رأي أقدره وأحترمه لكنني لا أوافق عليه، فأنا لم أشعر أنها محرقة لأن وزير الصحة الذي يعمل ويفهم دوره وما هو مطلوب منه مثل أي وزير في المملكة يستطيع أن ينجح، لكن ربما هذا الكلام ينطبق على الوزير الذي يأتي من خارج القطاع الصحي أكثر ممن يأتي من داخل القطاع، حيث يحتاج إلى وقت أطول للتعرف على الواقع، وأتذكر أن الدكتور أسامة شبكشي قال إنه لم يفهم وزارة الصحة إلا بعد مرور أربع سنوات على توليه المنصب، والسبب أنه جاء لوزارة الصحة من وزارة التعليم العالي. هل هذا يعني أنك تؤيد أن يأتي وزير الصحة من داخل القطاع الصحي؟ أتمنى ذلك، وأنا لا أشك في إخلاص ووطنية وحرص أي وزير يأتي من خارج الوزارة على العمل، لكن فاقد الشيء لا يعطيه، وكل من جاء من خارج القطاع الصحي لا بد أن يأخذ فترة للتعلم قبل أن يبدأ العمل. لكن هناك من جاء لفترة مؤقتة مثل المهندس عادل فقيه واستطاع أن يقدم رؤية عملية في إيقاف مرض الكورونا؟ أنا لا أشكك فيهم ولا أقلل بهذا الكلام من قيمة أي وزير جاء من خارج القطاع. أعتقد أنك امتدحت أحمد الخطيب عندما عين وزيرا للصحة في أحد مقالاتك رغم إعفائه السريع؟ هذا لا يغفل حقيقة أن الرجل فاضل ومخلص وقد امتدحته رغم فترته القصيرة لأنه قام بخطوة مضيئة من خلال تشغيل المختبر الوطني الذي ظل معطلا لسنوات، وكان يمكن أن يسهم في التسريع بعلاج أمراض كورونا وأنفلونزا الخنازير والطيور وغيرها، والحمد لله فبعد تشغيله لم نعد بحاجة إلى إرسال عيناتنا للخارج. في رأيك، كم هي المدة المناسبة لبقاء وزير الصحة في منصبه؟ أعتقد أن 8 سنوات كافية لوزير الصحة وغيره من الوزراء لكي يقدم ما يشفع لبقائه في المنصب، هذا إذا عمل في ظروف طبيعية. وهل كنت تعمل في ظروف غير طبيعية؟ المترصدون لنجاح أي وزير كانوا من الكثرة بمكان في فترة وجودي. وما هو السبب؟ لأننا ضغطنا كثيرا على أصحاب المصالح الخاصة، ومن المؤسف أنك إذا قمت بتجفيف بعض الموارد غير الشرعية لشركات وأفراد خصوصا بعد اكتشافنا لبعض الرشاوى ونحن نعمل على مشروع التأمين الصحي فتعرضت لحرب شنيعة. هل يعني هذا أنك كنت بحاجة لسنتين فقط لتستكمل مشاريعك عندما كنت وزيرا؟ نعم كنت بحاجة لهاتين السنتين لأنتهي من كل مشاريعي التي خططت لها وبدأتها ولم أكملها. المشكلة أن المواطن حتى لو وجد سريرا فإنه يشعر بتفاوت الخدمة الصحية بين قطاع وآخر بصورة غير مبررة؟ هذا صحيح وبمقارنة حسابية تكتشف هذا الفارق، فالتكلفة الحالية للسرير الواحد في مستشفيات وزارة الصحة تصل ل 170 ألف ريال تقريبا ولو قارناها بالمستشفى التخصصي الذي بلغت ميزانيته لهذا العام 7 مليارات ريال والذي يسع 1000 سرير (المعلن رسميا 650 فقط) فستكون تكلفة السرير الواحد 7 ملايين ريال تقريبا، وهذا الفرق الشاسع بين وزارة الصحة والتخصصي ينطبق على مستشفيات الحرس الوطني أيضا، ولهذا فإن تطبيق مبدأ المساواة بين المواطنين يصبح غير ممكن في ظل هذا الوضع. من الطريف أن بعض المواطنين وصل بهم اليأس من وزارة الصحة لإطلاق الشعارات عن كل مرحلة، ففي عهد القصيبي كان الشعار «وإذا مرضت فهو يشفين»، وفي عهد الدكتور فيصل الحجيلان «قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين»، وكان الشعار في عهد الدكتور أسامة شبكشي «كل نفس ذائقة الموت»، وفي فترة الدكتور حمد المانع «قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم»، وفي وزارة الدكتور عبد الله الربيعة «ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا». ما رأي معاليكم؟ «ضحك المانع طويلا».. ثم علق قائلا: طالما أن القطاع الصحي لم يتحسن فستسمع الكثير من هذه التعليقات الساخرة. وكأن وزارة الصحة ليس لها استراتيجية واضحة ليأتي الخلف فيكمل عمل السلف؟ «يستمر المانع في الضحك».. ويعلق قائلا: من أجل ذلك وضعت مشروع «بلسم» عندما كنت وزيرا لتغيير واقع وزارة الصحة إلى الأفضل لكي لا يأتي أي وزير جديد بخططه الخاصة فيقوم بتغيير ما قام به من سبقه وأخذت عليه موافقة شبه نهائية من الجهات العليا، وكنت أعي وأعرف الإرهاصات الموجودة وقلق ولاة الأمر والمواطنين من وزارة الصحة، وكم تمنيت أن تكون وزارتنا مثل أي وزارة صحة محترمة في العالم الغربي لا يأتي الوزير الجديد فيها بخطط فيغير ما خطط له من سبقه، ولدينا تجارب واضحة في وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، فهناك الكثير من المواطنين لا يعرفون اسم الوزير والسبب أن الخدمة تقدمها شركات ومن خلال منافسة، وكنت أتمنى أن تقدم وزارة الصحة خدماتها من خلال منافسة أيضا، ولا يطرح اسم وزير الصحة، والآن لو سألت مواطنا فرنسيا أو أمريكيا أو بريطانيا أو ألمانيا عن وزير الصحة في بلده فستجد الأغلبية لا يعرفونه لأن لديهم نظاما صحيا واضحا لا علاقة له بمجيء وزير أو ذهابه، وهذا ما قدمته في مشروع «بلسم» الذي كان يعتمد على ثلاثة عناصر أساسية هي: التأمين على المواطن والمقيم، وإنشاء صندوق الخدمات الصحية، وإنشاء هيئة الجودة، على أن تبقى المراكز الصحية بيد وزارة الصحة لأنها خط الدفاع الأول ضد الأمراض الطارئة والمستعصية، ومن ثم فإن تجويد خدمة هذه المراكز في كل أنحاء المملكة وجعل المواطن يثق فيها مثل أي مركز صحي في العالم المتحضر للقضاء على ظاهرة عدم الثقة في هذه المراكز من قبل المواطنين، ولو وجدت هذه المراكز الجيدة ما طلب أي مواطن بضرورة تحويله إلى المستشفيات. مع أن العلاج في المستشفيات أعلى كلفة على الدولة من المراكز المتخصصة؟ هذا صحيح فتكلفة العلاج في المستشفيات عالية جدا على الدولة، ودعني أضرب لك مثالا لنجاح تجربة المراكز الصحية في دولة مثل كوبا، فقد أرسلنا لها لجنة وقابلت الرئيس فيدل كاسترو آنذاك وكان الهدف منها الاطلاع على تجربتهم الفريدة في إدارة المراكز الصحية التي تعتبر الأفضل عالميا، حيث تتم فيها كل العمليات ومعالجة الأمراض المستعصية وتخفف عن الدولة كلفة عالية جدا، وكنت أحلم بتطبيقها في بلدي. وأين وصل مشروع «بلسم» في نهاية الأمر؟ لا أخفيك أن المشروع نوقش في مجلس الخدمات الصحية ثم شكل المقام السامي لجنة من وزارة المالية ووزارة الصحة ووزارة الخدمة المدنية ومجلس الخدمات الصحية وناقشوا هذا المشروع ورفع لهيئة الخبراء في الديوان الملكي وعرض على اللجنة العامة، حيث جلست مع أعضائها عدة جلسات أناقش وأشرح المشروع، وكنت سعيدا بموافقة كل أعضاء اللجنة عليه وبقيت الخطوة الأخيرة برفعه إلى مجلس الوزراء لإقراره، ولكن حدث التغيير الوزاري فغادرت موقعي وأجهض المشروع ولم أسمع به حتى الآن. هل هناك من لا يريد لوزارة الصحة أن تنجح؟ أعداء الوطن موجودون في الداخل والخارج، لكن لا يمكن أن أصدق أن هناك في داخل الوزارة من يريد لها الفشل لأن هذا ضد مفهوم المواطنة. ذكرت أكثر من مرة بأن القطاع الصحي تتنازعه 14 جهة حكومية ينبغي أن تنضوي جميعها تحت الوزارة، لكن هناك من يرى بأن الوزارة لو تولت مسؤولية هذه القطاعات لتفشت فيها البيروقراطية وتراجع مستوى الخدمات؟ لو تم التأمين على جميع المواطنين لما أصبح لدينا مشكلة إطلاقا، وإذا عرفت أن ما يصرف على القطاع الصحي في المملكة اليوم ما يربو على 120 مليار ريال في جميع القطاعات ال 14، وهو مبلغ ضخم جدا ومكلف على الدولة، وأتذكر أنني زرت بريطانيا أثناء الحرب فقلت لهم إنكم تحتاجون إلى خدمات صحية للجنود، فقالوا لي: إن لديهم أسرة خاصة بوزارة الدفاع في مستشفياتهم لكن كل الميزانية تأتي من وزارة الصحة، ولذلك فإن توزيع الخدمات الصحية في بلادنا بهذه الصورة الحالية مرهق لميزانية الدولة ولا يحقق مبدأ المساواة في الخدمة لجميع المواطنين، ولهذا قدمت مشروع «بلسم» الذي أجهض لأنني رغبت في أن تتساوى الخدمة لجميع المواطنين دون استثناء، ولا يضطر مواطنونا في المناطق الطرفية خصوصا الشمالية للذهاب إلى الأردن مثلا لطلب العلاج. هل ما زالوا يذهبون حتى الآن؟ - شيء مؤسف مع أن المستشفيات الأردنية لا يتوفر لها التمويل الذي يتوفر لمستشفياتنا الحكومية. هل تعتقد أن تنازع صلاحيات الصحة في هذه القطاعات له علاقة برغبتهم في السيطرة على صناعة القرار داخل الوزارة؟ لا يمكن لأي جهة أن تفرض سيطرتها على وزارة الصحة التي يعمل بها أكثر من 300 ألف شخص فيهم من الكفاءات والقدرات الشيء الكثير. هل هناك من حاول في فترة وزارتك السيطرة على القرار في وزارة الصحة؟ حاول أكثر من قطاع القيام بهذا الدور لكنهم لم ينجحوا ولي تحفظي على هذه المواقف، وقد أثبت أبناء وزارة الصحة قدرتهم على إدارة الأمور والقيام بواجباتهم في الحج وعند حدوث الأزمات وخلافها والنجاح في إدارة القطاع الصحي دون أن يصادر أو يقفز على جهودهم أي قطاع آخر. هذه وزارة «تجيب» المرض يا دكتور؟ الحمد لله أن وزراءنا لا يعمرون في الصحة، ولو طال وجودهم في المنصب مثل الوزير العماني الدكتور أحمد السعيدي الذي استمر في منصبه لأكثر من عشرين عاما، لماتوا قبلها. «الحزام الصحي» أجهض بفعل فاعل لم يخف الدكتور حمد المانع، وزير الصحة الأسبق، حسرته وهو يتحدث ل«عكاظ» عن أبرز المشاريع التي كان يأمل أن تتحقق قبل أن يغادر كرسي الوزارة. وأوضح أن دموعه التي ذرفها لدى مغادرته وزارة الصحة، كانت خوفا على أمور وأحلام ومشاريع كانت في باله وحاول أن يسابق بها الزمن على أمل أن تتحقق، لكن أمر إعفائه من وزارة الصحة سبق تحقيق تلك الأحلام. وأضاف «كان لدي الكثير من المشاريع كالتأمين الصحي للمواطن والمقيم، وتحويل الكلية التي افتتحتها في مدينة الملك فهد الطبية إلى جامعة، وإنهاء مشروعي الحزام الصحي والمراكز التخصصية. وكنا نطمح في الوزارة ألا يصل المواطن إلى مرحلة استجداء السرير في المستشفيات الحكومية، وحدث ما تخوفت منه وأجهضت كل تلك المشاريع بعد مغادرتي بفعل فاعل، للأسف الشديد». غدا: الربيعة خذلني وآلمتني قراراته