كشفت الحرب على الجماعات الإرهابية استغلالهم للتقنية للاحتيال المالي وغسيل وسرقة الأموال من المؤسسات والبنوك وسرقة المعلومات وتسريب الوثائق السرية وتدمير المواقع الإلكترونية للجهات الحكومية وتجنيد أعضاء جدد وجمع التبرعات واستدراج رجال الأمن عبر وسائل التواصل الاجتماعي. مواقع للتضليل وخير دليل على ارتباط الجرائم الإلكترونية بالجماعات الإرهابية ما كشفت عنه عدة تقارير لوزارة الداخلية عن محاولات داعش استخدام مواقع الإنترنت للدعاية والتضليل والتأثير على عقول الشباب واتخاذ بعض العناصر التكفيرية أسماء حركية مستعارة كحزام ناسف وداعش وافتخر. وكذلك كشفت هذه التقارير أيضاً عن ضبط وزارة الداخلية لعدد كبير من أجهزة الجوال والشرائح وكاميرات التصوير والحاسبات الآلية المتنقلة وأسطوانات ليزرية مع هذه العناصر. ومن الصور الأخرى للجرائم الحديثة ما لوحظ خلال السنوات الأخيرة من تنامي ظاهرة التسابق والتنافس في تصوير ونشر صور الخطابات والمستندات والتعاميم الحكومية السرية في معظم المجالات من بعض الموظفين عبر تطبيقات الجوال الواتس آب أو تويتر أو البريد الإلكتروني حتى تصل إلى أجهزة الاستخبارات الدولية أو الجماعات الإرهابية. ومن الجرائم الحديثة التي ترتكب ضد المؤسسات الحكومية ذات الكيانات الاقتصادية الضخمة إصدار المحكمة الجزئية المختصة بالرياض حكماً بالسجن على موظف يعمل في مؤسسة صيانة الحاسب الآلي متعاقدة مع شركة أرامكو السعودية يقضي بسجنه لمدة ست سنوات، والحكم على مساعديه الاثنين بالسجن لمدة ثلاث سنوات، وذلك لقيام المتهم الأول بارتكاب جريمة التجسس، واستغلال طبيعة عمله لتسريب معلومات سرية عن شركة أرامكو السعودية. إجرام معقد وبالنظر إلى بعض الطرق سالفة الذكر نجد أن الجرائم الإلكترونية أضافت إلى مشكلة الجريمة أنماطاً إجرامية معقدة يحتاج إثباتها إلى مختصين وبرامج علمية، حيث إن الأجهزة التقنية تلعب عدة أدوار في هذه الجرائم فقد تكون أداة لارتكاب جريمة أو مكان وجود الدليل أو ضحية لجريمة إلكترونية. وبهذه المعطيات فقد تحول وانتقل مسرح الجريمة من التقليدي (المكان الذي ارتكب به الجريمة ويتم حفظه لجمع الأدلة المادية التي عادة ما ترتبط بمنفذ الجريمة) إلى الافتراضي أو الرقمي (الأجهزة الإلكترونية والشبكات). ونتيجة لذلك التغيير فقد ألغت أهمية وسائل الإثبات التقليدية كالشهود والإقرار والأدلة الملموسة مما يؤثر على سير القضية وعدالة القضاء وتأخر البت في القضايا، حيث إن المجرم في الغالب يكون متواجداً لوحده عند ارتكاب الجريمة الإلكترونية في العالم الافتراضي. وقد يتراجع عن الإقرار في المحكمة بحجة انتزاع الاعتراف بالإكراه أو عدم وجود أدلة لتحول الأدلة الجنائية التقليدية في العالم الافتراضي إلى أدلة غير ملموسة ولا يستطيع التعامل معها إلا الخبراء. وهنا نحن بحاجة إلى علم يغلق هذه الثغرة الكبيرة ويسهم في تقوية وسائل الإثبات بتقديم أدلة وقرائن قاطعة لإثبات هذا النوع من الجرائم ويقدم حلولاً لتناقض الإقرار وشهادة الزور أو الرجوع عن الشهادة لكل من هيئة التحقيق والادعاء العام، المحاكم، ووزارة الداخلية. وقد تختزن هذه الأجهزة حقائق قيمة ولا يستفاد منها في الجهات المختصة لعدم الإلمام بها، كاستخدام الأجهزة لإخفاء مخطط عمل تفجيري باستخدام التشفير. والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يتم إثبات هذه الجرائم وكيف يتم تحديد الفاعل؟ وهنا تكمن أهمية الطب الشرعي الرقمي والأدلة الرقمية. العلم الرقمي ويعرف علم الطب الشرعي الرقمي بالعملية المستخدمة لاستخراج وحفظ وتحليل الأدلة الرقمية المتواجدة في كافة وسائط التخزين الإلكترونية والأجهزة الإلكترونية كالحاسب الآلي وأجهزة الجوال والطابعات، وهو من أحدث العلوم وأصعبها للدور الكبير الذي يلعبه لاستعادة الأدلة الجنائية الرقمية لدعم عمليات التحري والتحقيق كاسترجاع المعلومات، الصور والملفات المحذوفة من الأجهزة الإلكترونية وفك تشفير المعلومات ومعرفة العلاقات بين المجرمين والمواقع التي تم زيارتها واسترجاع مراسلات التطبيقات بين المجرمين. وقد أثبت هذا العلم كفاءته في عدة قضايا معقدة بقدرته الفائقة على جمع الملفات الإلكترونية المحذوفة والمحادثات والمراسلات بين المشتبه بهم والربط بين مسرح الجريمة والفاعل حتى في جرائم القتل والانتحار والابتزاز. فهذا العلم يتعامل دائماً مع الدليل الجنائي الرقمي وهو دليل غير ملموس أو غير مادي، فلهذا يعتبر هذا الدليل من الأدلة الفنية التي تحتاج إلى متخصصين وعلماء لاستخراج هذه الأدلة من الأجهزة الإلكترونية المختلفة. وينقسم هذا العلم إلى عدة أقسام من أهمها التعامل مع جرائم الحاسب الآلي، الهاتف النقال، الشبكات وتختص بمراقبة الإنترنت وجمع المعلومات عن بعد، والخوادم والحوسبة السحابية. والتعامل مع الأدلة الرقمية في علم الطب الشرعي الرقمي يحتوي على مراحل أساسية لضمان الحفاظ وموثوقية الأدلة الجنائية الرقمية والوصول لها في الوقت المناسب. وللاستفادة من هذا العلم في كشف الجرائم الحديثة لابد من إنشاء نوعين من معامل الطب الشرعي الرقمي Digital Forensics Laboratory: معمل إلكتروني متنقل مختص بالجرائم الكبرى كالجرائم الإرهابية حتى تنتقل هذه المركبة المخصصة إلى مسرح الجريمة في حالة القبض على الإرهابيين لسرعة ضبط وجمع وتحليل هواتف الجوال والاستفادة من وضعية التشغيل لأجهزة الحواسب والحصول على الأرقام السرية ومعلومات مهمة والتي تختفي فور إغلاق الجهاز. معمل رئيسي ثابت مجهز ببرامج وأدوات علمية متقدمة ويخدم جميع القطاعات الحكومية كالأمن والفساد والجرائم المالية وهيئة التحقيق والادعاء العام. الهدف من هذه المعامل هو الاستفادة الكبرى من المعلومات الرقمية وتسريع استرجاع الأدلة ومساعدة القضاء في البت في هذه القضايا ومن الجانب الآخر تقديم حلول لتناقض الإقرار وشهادة الزور أو الرجوع عن الشهادة. وكذلك توفير تكاليف الإنشاء وحل مشكلة نقص الخبرات البشرية إذا تم إنشاء مقر رئيسي يخدم جميع القطاعات الحكومية، وتثقيف القضاة والمحققين بالدور الكبير الذي يلعبه الطب الشرعي الرقمي لإثبات الجرائم لمواكبة ظاهرة الجرائم الإلكترونية، إنشاء إدارات في المحاكم أو الاستعانة بمن هم مؤهلين للتعامل مع هذه الجرائم حتى يتأكد من أن جميع الإجراءات المتبعة سليمة. وبذلك سوف يكون هناك تكامل مع نظام الجرائم المعلوماتية الصادر بقرار مجلس الوزراء رقم 79 وتاريخ 7/3/1428ه، وسوف يقوي وسائل الإثبات للجرائم الرقمية المرتبطة بالجرائم الكبرى كالإرهاب وسوف يساعد في كشف كثير من أسرار داعش الرقمية، مما يخلق منظومة أمنية قضائية متكاملة في مكافحة الجرائم الرقمية المرتبطة بأمن الدولة. خبير الطب الشرعي الرقمي والأدلة الرقمية