صبيحة فرحة النازحين السوريين في تركيا بفوز حزب العدالة بالانتخابات وانتصار مؤسس الحزب رجب طيب أردوغان، كان القرار بالعبور الى سوريا من انطاكيا التركية للبحث عن حقيقة ما يجري على الأرض السورية والإجابة عن الكثير من الأسئلة المطروحة على التطورات الكثيرة وعلى رأسها التدخل الروسي المباشر والمشاورات الدولية الحاصلة في فيينا لإيجاد تسوية سياسية، والتوغل الإيراني في سوريا. .. «العبور الى داخل الأراضي السورية دونه صعوبات هذه الأيام غيرها عن باقي الأيام». بتلك الكلمات خاطبنا «أبو نزار» وهو سوري الجنسية يبلغ من العمر أربعين عاما، يعيش في غازي عنتاب ويعمل كما يعرف نفسه على مساعدة السوريين في العبور الى سوريا أو الى تركيا. .. «أبو نزار» تكفل بتسهيل عبورنا إلى داخل الأراضي السورية وذلك مقابل مبلغ من المال برره قائلا: «هذا المبلغ هو لسائق الباص التركي الذي يعرف الضابط المسؤول على الحدود». استقللنا الباص الأبيض في طريق جبلية هي أشبه بجبال لبنان حيث الأودية والسهول الخضراء تترامى يمينا ويسارا. ساعة مسير بالباص من وسط أنطاكيا كانت كفيلة بوصولنا إلى حاجز «للجندرما» التركي عند معبر هيتة، توقف الباص وترجل السائق التركي.. خمس عشرة دقيقة من الانتظار قبل أن يهرول السائق باتجاهنا مخاطبا أبا نزار الذي يجيد التركية والذي خاطبنا بدوره: بسرعة اعبروا الحاجز وبعد خمس مئة متر هناك حاجز للثوار سينتظركم أمامه المقدم «أبو الشيخ» فهو من سيرافقكم بجولتكم في الداخل. لهجة أبو نزار وقلق السائق التركي ولهفة نجاحنا بالعبور الى الداخل السوري بددت كل الأسئلة والاستفهامات والتي عادت لتنهمر في المخيلة ونحن نهرول باتجاه الحاجز دون قدرة على الوصول لأي إجابة عنها. «أسرعوا»، صوت يصلنا من خلف الحاجز لرجل خمسيني ذي لحية بيضاء مرتديا بزة عسكرية مرقطة خضراء، وما أن وصلنا إليه عرفنا على اسمه «أبو الشيخ»: «لقد حدثني الشباب عنكم وسأكون معكم طوال الرحلة». ثم استأنف كلامه فقال: «سأسجل الأسماء عند الحاجز، أنتم لا تتكلموا، يجب أن لا يعرف الشباب بجنسيتكم اللبنانية كي لا تصبحوا سلعة للبيع والشراء». صعدنا سيارة الدفع الرباعي، تقدم بها أمتارا نحو الحاجز مطلقا علينا اسمين لم نخترهما مدعيا أننا من أبناء قرية «ارمناز» في إدلب لتكون المرة الأولى التي نخفي فيها هويتنا اللبنانية البيروتية التي لطالما افتخرنا بها. سجلت أسماؤنا على الحاجز وانطلق «أبو الشيخ» مجتازا القرى في محافظة إدلب فوصلنا بداية إلى قرية دركوش بعدما اجتزنا قرى العدنانية وزرزور حيث ينتصب على بابها حاجز لجبهة النصرة، وهنا كانت تعليمات أبو الشيخ واضحة لنا: «لا تنظروا إليهم، أنا من ألقي التحية على الحاجز»، وهذا ما كان، فنقر على «زمور السيارة» وهي كما يبدو إشارة معتمدة في سوريا لمرور أية سيارة عسكرية دون تفتيشها. .. «إدلب منقسمة بعد تحريرها بالكامل بين ثلاث فصائل، الجيش الحر وأحرار الشام وجبهة النصرة وهناك طرف رابع هو جند الأقصى لكن ليس بحجم باقي الأطراف».. هكذا بدأ حديثه أبو الشيخ معنا ثم يتابع فيقول: «هناك تقسيم للمناطق وتنسيق كي لا تحصل مشاكل بين العناصر وهناك محاكم شرعية تتكفل بحل أي خلاف يقع». ويضيف: «هذه القرية (وصلنا إلى قرية ارمناز) تضم عددا كبيرا من النازحين من قرى بنش وتفتناز وغيرها، قدموا الى هنا لأن الخدمات قام الثوار بتأمينها كالماء والكهرباء عبر المولدات، إضافة للأمن والقانون. قراهم بعد تحرير إدلب باتت قادرة على استيعابهم لكنهم فضلوا البقاء هنا بسبب هذه الخدمات، إضافة إلى أن المساعدات الإغاثية تصل إلى القرية حيث تضم مركزا لمؤسسات دولية إغاثية». من أرمناز إلى الوجهة الرئيسية التي نقصدها وهي مركز محافظة إدلب، فالدخول إلى مركز المدينة في إدلب يشعرك بأهمية الإنجاز الذي حققته قوى الثورة بتحرير المدينة قبل أشهر معدودة، فالسيطرة على الريف ما كانت فعالة إلا أن تحرير وسط المدينة يشكل رمزية لا توازيها أية رمزية أخرى. اجتزنا محطة الكهرباء ومخازن الحبوب التي كانت المعارك فيها هي الفيصل في حسم الأمور لصالح الثوار، فيقول «أبو الشيخ» شارحا لنا: «لقد استمرت المعارك في هذا المكان يومين متتاليين وأمام إصرار الثوار على التقدم انهارت دفاعات النظام وميليشيات حزب الله، وبدأوا بالهرب من المقرين رغم التحصينات الكبيرة الموجودة بعد دخولنا إلى مخازن الحبوب والقمح، أخذت شوارع المدينة تتساقط الواحد تلو الآخر». على بعد خمس مئة متر كان مبنى محافظة إدلب أمام الخراب والدمار الذي كان واضحا في المكان، دخلنا من بوابته الرئيسية، المكان خال من موظفيه ومسؤوليه، وكان بإمكانك استحضار أصوات الهاربين منه إن أغضمت عينيك. صور تزاحمت في الخيال وكأن عملية الاقتحام تحصل في هذه اللحظة، تأمل لم يقطعه سوى صوت أحد المرافقين يخاطبنا: «هذا مكتب المحافظ»، نداء استفز فينا حب الاطلاع والشهادة على الحدث، ثم يقول ونحن ندخل من باب الغرفة: «هذا المكتب كان يحتاج لوساطة كبيرة كي يتمكن المواطن من الدخول إليه، الجالس في هذا المكتب كان يحكم محافظة إدلب بأكملها». مكتب محافظ إدلب وكأن قهر الناس هناك تحول إلى قنبلة وانفجر فيه، الأوراق مبعثرة على الأرض، وأدراج الطاولة ملقاة على الأرض، فيما ختم المحافظ ما زال في الغرفة فلم يعد له قيمة بعدما كانت تدفع ملايين الليرات السورية ليوضع على ورقة ما..! «الحشرية» الصحفية جعلتنا نقلب الأوراق المبعثرة، إنها وثائق بالتهم الموجهة للكثير من سكان إدلب وهنا سألت «أبو الشيخ»: «لماذا هذه الوثائق ملقاة؟ لماذا لا يتم توثيقها فهي مهمة؟ ليجيب بكلمات ربما تكفي لتشرح هول المأساة التي يعيشها السوريون والتي يجب أن يسمعها مؤتمر فيينا وغيره من المؤتمرات، حيث قال: «السوريون لا يريدون هذه الدولة ولا أي ورقة تذكر بها». خرجنا من مبنى المحافظة بعدما بدأنا نسمع هدير الطائرات الحربية الروسية والتي تنذر عادة بغارة جوية قريبة. «إلى أين الوجهة الآن؟!» هذا ما قاله أبو الشيخ سائلا لنا، فكانت الإجابة: «طبعا الفوعة وكفريا». «أم برهان».. الكرامة أهم من الخبز الحياة في إدلب وبخاصة في مركز المحافظة بدأت تستعيد شيئا من طبيعتها، حيث قامت بعض العائلات بلملمة خسائرها وإصلاح ما أمكن. عادت إلى منازلها غير عابئة بالغارات الجوية ولا البراميل المتفجرة. أم برهان سيدة من إدلب، دخلنا منزلها فاستقبلتنا بأخلاق إدلبية حيث الكرم يبدأ من هناك، فكانت «كاسة» الشاي هي البداية، وأهميتها أنها تحضر بأغلى ما تملك العائلة الإدلبية، بالسكر الغائب عن الأسواق وبالكاز الذي يشعل نار القنديل والذي بات ثمنه فوق طاقة السوريين. فروت أم برهان قصتها لنا قائلة: «عندما كان الشبيحة يسيطرون على شوارع المدينة كنا نخشى الخروج من المنزل فأي فتاة معرضة للخطف والاغتصاب، فيما الرجل إن خرج إلى عمله أو إلى السوق لا ندري إن كان سيتمكن من العودة. عندها قرر زوجي أن نغادر المدينة بالسر فكانت وجهة النزوح مدينة سلقين حيث استقبلنا أهلها بكل محبة وبعد أن تحررت المدينة قرر زوجي في اليوم التالي أن يعود بنا إلى المنزل، عدنا فوجدنا نصفه مهدما وكل أغراضه قد سرقت من قبل الشبيحة قبل مغادرتهم، تصوروا، كانوا يرمون ببنادقهم أجهزة التلفزيون في المنازل، لم يتركوا شيئا في منازلنا إلا سرقوه. نحن الآن نعيش دون ماء ودون كهرباء وكثير من المواد الغذائية مفقودة من الأسواق والأسعار باتت مرتفعة، لكن نعيش بأمان وكرامة وهذا بالنسبة لنا أهم من كل شيء». أم برهان ونحن نغادر كانت الابتسامة لا تفارقها فخاطبتنا ممازحة: «لا تنشروا صوري فعندنا المرأة يجب أن لا تظهر للغرباء ويا ليتكم قادرون على حمل بعض الزيتون والزيت من إدلب فزوجي قام بحصاد الموسم وكنت أريد أن أهديكم شيئا منه لكن طريقكم صعبة». أم برهان تلك السيدة الإدلبية لا يهمها الموت ولا صعوبة العيش ما يهمها هي الكرامة فقط الكرامة ومن قال إن الثورات تندلع من أجل الحرية فقط فللكرامة ثورتها أيضا. شرطة المرور آخر المنسحبين يتداول أهالي إدلب الكثير من القصص المضحكة عن ليلة سقوط النظام، فتتنوع النوادر والنكات ما بين القائد العسكري التابع للنظام والمسؤول عن جبهة إدلب العقيد سهيل الحسن الملقب بالنمر وما بين عناصر حزب الله الذين تاهوا في الشوارع وحقول الزيتون، إلا أن أطرف الحكايات كانت حكاية شرطة المرور في مركز المدينة والذي يقولون عنه إنه كان آخر معقل للنظام يسقط في يوم التحرير، وفي تفاصيل ذلك، أنه عندما قام الجنود والميليشيات الطائفية من حزب الله ومن لواء الفاطميين الإيراني بالهروب من مواقعهم في وسط إدلب دخل الثوار كل تلك المواقع مطاردين الهاربين ومعتقلين لبعضهم، إلا أن المفاجأة الكبرى أنه وبعد ساعات من تحرير المدينة يخرج من مركز شرطة المرور عدد من الشرطيين رافعين أيديهم مستسلمين، وعند سؤالهم عن سبب بقائهم وعدم هروبهم، قالوا: إن المدعو النمر أمرهم بعدم المغادرة وإلا فإن الموت سيكون بانتظارهم. لقد فر الجنود ونمرهم مراهنين على شرطة المرور في تسهيل طريق هروبهم. سكان المدينة وبعد هذه الرواية قاموا بإطلاق سراح الشرطيين خاصة أنهم كانوا من أبناء القرى المحيطة وأن أيديهم لم تلطخ بدماء الأبرياء. لا بل كانوا شركاء في كونهم ضحية من ضحايا النظام.