لا يختلف أحد على ضرورة التحديث العمراني بإضافة الأبراج والمخططات السكنية الراقية، خصوصا في مدينة لها أهميتها في استقبال الزوار على مدار العام، مثل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلام. إلا أن ما يثير محبي «طيبة الطيبة»، هو هجمة الحديد والأسمنت عبر المشاريع الفندقية أو التنموية على مزارع النخيل، التي اشتهرت بها المدينة منذ بدء تاريخها. ولعل ما يثير أهل المدينة ومحبيها، أنه بالإمكان الاستفادة من المزارع، بتوزيعها في الشوارع الرئيسية وأمام المباني الراقية الجديدة، مع الاحتفاظ بمزارع متوزعة على المساحة الإجمالية للمدينة، مع مراعاة تطوير تسوير وفق رؤية عمرانية مميزة ومتشابهة على الأقل. «عكاظ» جالت على منطقة المشاريع التي تجري حاليا في المدينةالمنورة، حيث يلاحظ أن الكثير من المزارع راحت ضحية هذه المشاريع، خاصة مع بدء أعمال التوسعة الجديدة التي تجري هذه الأيام للمسجد النبوي الشريف، بالإضافة إلى المشاريع المساندة التي تهدف إلى إنشاء منطقة مركزية جديدة في المدينةالمنورة، والتي طالت إزالة ما يربو على 14 حيا في المدينة بجهاتها المختلفة، راح ضحتها عدد من مزارع النخيل الشهيرة، خاصة في حي العوالي القريب من المسجد النبوي. تهديد اخضرار العوالي وقباء وهناك أيضا ما تقوم به هيئة تطوير المدينة من مشاريع تنموية، طالت بشكل مباشر حي قباء التاريخي الشهير بالزراعة، إلى جانب مناطق أخرى غنية بالمزارع؛ وذلك بما يهدد الرقعة الخضراء في المدينة، ويستوجب إيجاد بدائل لهذه المزارع التي كانت تمد المدينة بالخضرة والجو العليل، وتمثل لسكانها ذكريات أزلية لا تنسى، خاصة مزارع العوالي وقباء. وما زاد الطين بلة، أن بعض المزارعين رضخ لإغراءات العقاريين و«شريطيته»، حيث باعوا مزارعهم بغرض تحويلها إلى مخطط سكني أو أسواق تجارية، بعد التحايل بتقديم إثباتات موثقة من جهات الاختصاص بأن مزارعهم «غير صالحة». ولعل تلك الإغراءات العقارية والإثباتات «الملتوية»، قد أسهمت في تقليص مساحة الرقعة الخضراء كثيرا، وتهديدها بالزوال وهي ما كانت تشتهر به المدينةالمنورة خصوصا عبر إنتاج التمور، وتحولت مزارع النخيل في العوالي وقباء التي رصدتها «عكاظ»، إلى قيعان تصادر التاريخ وتنتظر التخطيط لمعالم جديدة تماما. وعبر عدد من مواطني المدينةالمنورة عن أسفهم من اندثار مزارع المدينة، التي تربطهم بها ذكريات لا تنسى، كما يصفون، حيث لا يجدون لها بديلا، بعد إضافة إبراج أسمنتية «بلا روح أو رائحة»، على حد قولهم. وقد عبر رضا الزويتني عما يجول بداخله من افتقاد إرث مهم، خصوصا أنه كان حريصا على ارتداء زي شعبي اشتهرت به المدينةالمنورة، وقال الزيتوني: لا تذكر المدينة إلا وتذكر معها مزارعها ونخيلها وتمورها، ولنا نحن كأبنائها ذكريات لا يمكن أن تمحى، حيث كانت وجهة الباحثين عن النزهة والأنس والجو العليل، وهذه الذكريات لن تمر على الأجيال القادمة، لأنهم قد يشاهدون القليل جدا من المزارع. وأضاف أن تلك المزارع المجاورة للأحياء، كانت تثمر تمورا شهيرة مثل «الروثانة» وغيرها، متمنيا عدم إزالتها، ومستدركا أنه لا بد من المشاريع التنموية، لكن أيضا لا بد من التوازن بشكل أو بآخر. عقاري: من الأفضل بيع المزارع وكان للعقاري تركي السهلي رأي يندرج تحت وجهة نظره الاقتصادية، حيث قال: بالفعل تحولت معظم المزارع إلى مخططات أو أسواق تجارية؛ لأن المزارعين الآن لا يجدون مردودا يذكر لمزرعهم، خاصة في ظل شح المياه أو عدم وجود من يساعدهم في إدارة المزارع، فأولاد المزارعين اتجهوا للتعليم والوظائف الحكومية والخاصة، وبالتالي من رأيي أن يوافق على بيع مزرعته للعقاريين، خاصة أن المردود المالي كبير ومغر. إلا أن السهلي طالب الأمانة ووزارة الزراعة بإيجاد بدائل بتشجيع المزارعين، حتى لا تندثر هذه المهنة التي يتوارثها الأجيال، وحتى تتم المحافظة على الرقعة الزراعية الخضراء، التي اشتهرت بها المدينة. مقترح لاستمرار «الصورة الخضراء» من جانبهما، طالب كل من محمد الحربي وأسعد صالح هيئة تطوير المدينة بتجنب المزارع ووضعها داخل دائرة المشاريع، وذلك بإيجاد صفة توافقية، بحيث يستفاد من أشجارها في المنظر العام، بدلا من هدمها وبالتالي نفقد تلك المزارع التي يمتد تاريخ بعضها إلى مئات السنين. وتمنى الحربي وصالح أن يؤخذ اقتراحهم في الاعتبار، لأن منطقة البلد في ظل التوسع العمراني وانتشار الأسواق والكتل الأسمنتية، ستصبح بلا هوية خضراء أو رائحة؛ لأن المدينة منذ القدم وهي بهذا الوضع؛ فالأنسب أن يترك ما بقي منها أو أن توضع بدائل، مثل التوسع في إنشاء الحدائق ذات النخيل المثمر الذي يحافظ على «الصورة الخضراء» للمدينة، ويحافظ على هويتها التي تشتهرت بها ويعرفها الجميع، كما أنها تعطي فرصة للجميع للاستفادة منها في التنزه والمحافظة على البيئة بإضفاء الجو العليل. من وجهة نظر المؤرخ المعروف الدكتور تنيضب الفايدي، أن الاهتمام بالزراعة والنخيل تحديدا يحتاج إلى اهتمام الجهات المعنية خصوصا أمانة المدينةالمنورة، لمعرفة الناس جميعا أن المدينة اشتهرت تاريخيا أنها أرض ذات نخل، وبالتالي وجبت المحافظة عليها وتنميتها. وقال الدكتور الفايدي: ما يدل على أنها أرض ذات نخل، ما رآه الرسول صلى عليه وسلم في منامه، أنه كانه يهاجر إلى أرض ذات نخيل، فظن أنه سوف يهاجر إلى اليمامة لأنها أيضا شهيرة بالمزارع، إلا أنه هاجر إلى المدينة وهي أيضا شهيرة بالنخيل والزراعة. ومعروف أن المدينة يقوم اقتصادها على التمور؛ ما يستوجب أن نحافظ على هذه الخاصية، بعد أن أسهمت منشآت المشاريع التنموية والتوسع العمراني في القضاء على عدد من المزارع الشهيرة، حول منطقة البلد، مشيرا إلى أنه يمكن المحافظة على خصوصية المدينة الزراعية بإنشاء حدائق أو فراغات يزرع فيها النخيل، حتى نحافظ على تاريخ المدينة الطويل في هذا الجانب. وأضاف المؤرخ: معروف تاريخيا أن المدينة شهيرة بالمزارع التي كان يطلق عليها مسمى حيطان، مبينا أن المحافظة على مزارع المدينة وخضرتها من مسؤولية الجميع، حتى نحافظ على هذا الإرث التاريخي، الذي وصلنا عبر الأجيال منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. نائب رئيس بلدي المدينة: آن الأوان لمنع قتل المزارع أكد نائب رئيس المجلس البلدي في المدينةالمنورة عبدالغني الأنصاري، أن المساحات الخضراء نعمة من الله وجمال للمدن وهواء نقي للإنسان، ولا شك أن إزالة المزارع مقابل الحصول على أموال ضخمة مقابل بيع الأراضي البيضاء، تمثل نظرة قاسية تحتاج إلى إعادة نظر، خصوصا أن الهواء النظيف الصادر من النباتات هو الأفضل لصحة الإنسان، وقد وصفت المدينةالمنورة في الكتب القديمة قبل البعثة النبوية بأنها ذات نخل وليست ذات أسمنت وحديد. وأضاف الأنصاري: نعم للتوسع العمراني، لكن ليس على حساب المساحات الخضراء، وآن الأوان لكي تمنع الدولة قتل المزارع، وتجعلها جريمة مثل قتل الإنسان، بإطلاق هيئة متخصصة لتنمية مزارع المدينةالمنورة، لأنها من معالم الرئيسية وتمثل أمنا غذائيا للدولة، مشيرا إلى أن الإنسان الذي يستورد الغذاء سهل جدا السيطرة عليه عالميا. وطالب بالاستفادة من ماء الوضوء في الزراعة، بإعادة تدوير مياه الصرف ومعالجتها وعمل غابات في جميع أطراف المدينة للاستفادة من الأخشاب مستقبلا، وزيادة حجم إنتاج المزروعات التى لا تتأثر بالماء المعالج، وأيضا إطلاق مشروع ضخم لترشيد المياه من خلال تركيب أجهزة إعادة تدوير مياه في جميع المباني. كما طالب الأنصاري بتشجيع السكان على الزراعة أمام منازلهم والأطفال في مدارسهم، وبوضع استراتيجية واضحة المعالم لاقتصاديات تمور المدينة، والاستفادة من 7 ملايين حاج ومعتمر من أجل رفع أرباح المزارعين وحثهم على الزراعة وعدم هجر المزارع مع إنشاء شركات لتسويق منتجات المدينة الزراعية خصوصا أن كل مسلم يحلم بالحصول على تمر المدينة، ومحاربة النمو الكبير في أعداد السيارات التى تلوث البيئة من خلال زيادة المساحات الخضراء. «الزراعة»: لدينا شروط لتحويل الأرضي إلى سكنية أكد مدير فرع وزارة الزراعة في المدينةالمنورة المهندس إبراهيم الحجيلي، أنه لا يمكن الموافقة على تحويل الأراضي الزراعية إلى سكنية، إلا بعد انطباق عدة شروط عليها، مشيرا إلى أنه من تلك الشروط تقديم تقرير جيولوجي يثبت قلة المياه في أرض المزرعة، وإثبات عدم جدواها الاقتصادية للزراعة. وقال المهندس الحجيلي إن قضية الزحف الأسمنتي على مزارع المدينة واختفاء الرقعة الخضراء، لا تختص بمديرية الزراعة فقط، وقال إنه من منطق حرص إدارته على إيجاد متنفس للمواطنين. فقد قامت بإنشاء المتنزه الوطني بطريق تبوك، الذي يحتوي على 152 جلسة مظلة وستة مباني خدمات كدورات مياه، حيث تم افتتاح المرحلة الأولى منها.