أيهما أشد خطرا على المجتمعات: فساد أخلاق أبنائها أم فساد عقولهم؟ وأيهما أكثر تدميرا لها: غياب الفضيلة أم غياب العقول؟ وأي الأمرين يعود على المجتمع بنفع أكبر، أن يحرص على نشر الفضيلة بين أبنائه أم يحرص على صقل عقولهم؟ أي الاثنين يستحق الحماية أكثر: الأخلاق أم العقل؟ قطعا ليس المراد هنا المفاضلة بين الاثنين: الأخلاق والعقل، فمما لا جدال حوله أن المجتمع في حاجة إليهما معا، لكن المراد معرفة أي الاثنين أقوى تأثيرا على المجتمع؟ قد يرى أحدكم أن الأمر واضح لا يدعو للحيرة، فالأخلاق أقوى تأثيرا وحمايتها هي الأهم، وأن معظم ما تعانيه المجتمعات من تخلف وضعف وفقر هو بسبب فساد أخلاق أبنائها، فحين ينتشر بين الناس الكذب والنفاق والاختلاس والغش، وحين تغيب العدالة والأمانة والقيم العليا وتنزوي الفضيلة وتبرز الرذيلة، فإن المتوقع هو انهيار المجتمعات ودمارها. أحمد شوقي لم يكن استثناء، فهو أيضا كان مسلما بأولوية الأخلاق في بناء الأمم، وحين قال بيته الشهير: (إنما الأمم الأخلاق ما بقيت،، فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا)؟ حظي البيت بإعجاب الناس وصاروا يرددونه بتقدير يعبر عن إيمانهم بصدقه وحكمته، فهو يصور الأخلاق عماد البناء للأمة، فلا تتوقع أن ترى لها شموخا أو صمودا أو عزا بلا أخلاق تدعمها وترتكز عليها. لكنا حين ننظر من حولنا نجد أن هناك أمما تتراخى في اهتمامها بالجانب الأخلاقي فلا يضير ذلك مكانتها بين الأمم، وتضع الاهتمام بالعقول ضمن أولوياتها فتزدهر وتتقدم؟ هناك كثير من الأمم متقدمة في مكانتها، مزدهرة في اقتصادها، وفيها من الانحطاط الأخلاقي ما فيها، حيث تغرق في ركام من الرذائل بأشكالها المختلفة، ومع ذلك لا يعوقها انحطاطها الأخلاقي عن تحقيق الازدهار العلمي والاقتصادي والعسكري، ولا يحول دون اطراد نموها الإيجابي، فهل هذا الواقع المزدهر الذي تعيشه تلك الأمم (غير الأخلاقية) برهان على أن نهضة الأمم ترتكز على العقول وليس على الأخلاق؟ وأن الأمم المتقدمة مؤسس بنيانها على ركيزة متينة من العقل، سواء في مجال الابتكارات العلمية والصناعية، أو في مجال العدالة والأمانة وانضباط السلوك الاجتماعي، الذي يفرض بقانون عقلي وضعي وليس بضابط أخلاقي ذاتي؟ إن كان الأمر كذلك، لم إذن نجد الدعاة والخطباء والوعاظ يلقون باللوم في تخلف المجتمعات وتدهور أوضاعها على كثرة انتشار الرذائل فيها؟ ولا نجدهم يلقونه على العقول الخاملة العاجزة؟ ولماذا نسمعهم دائما يشتكون من أولئك الذين يسعون إلى تقويض الفضيلة، ولا نسمعهم يشتكون من أولئك الذين يسعون إلى تقويض العقول؟ ولماذا يكثر في المجتمع من يدعون إلى حماية الفضيلة، ولا نجد أحدا يدعو إلى حماية العقول؟.