تتوالى الأخبار منذ عدة أيام عن الصمود الأسطوري لعدد من الإخوة الفلسطينيين المرابطين في وجه قوات الاحتلال الإسرائيلي التي اقتحمت بأحذيتها وعتادها (المسجد القبلي) وهو أحد المساجد إلى جانب قبة الصخرة ومعالم أخرى ضمن المسجد الأقصى الذي تبلغ مساحته قرابة 144 دونما. والمسجد القبلي هو المسجد الذي بناه عمر بن الخطاب وجدده الأمويون. وهذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا التصعيد في الآونة الأخيرة بل هي الثانية، أما الأولى فقد كانت في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي بحسب تصريحات الشيخ عزام الخطيب، مدير دائرة الأوقاف الإسلامية، في مدينة القدس. وهذا التصعيد الإسرائيلي ليس جديدا ولم يكن الأخطر منذ يوم سقوط القدس في 7 يونيو 1967 إلا إن نسينا يوم 21 أغسطس 1969م حين أقدم الأسترالي «دينس مايكل» على حرق نفس الجامع (القبلي) بإيعاز وحماية من العدو الإسرائيلي لتلتهم النار أجزاء مهمة منه، وليحترق منبر نور الدين محمود زنكي الذي صنعه ليضعه بالمسجد بعد تحريره من الصليبيين ولكنه مات قبل ذلك ووضعه صلاح الدين الأيوبي ليحرقه ذلك الأسترالي اللعين الذي سارعت سلطات الاحتلال لاتهامه بالجنون وترحيله إلى أستراليا التي مازال يعيش فيها حياة طبيعية حتى هذه اللحظة. وإن نسينا فلن ننسى أيضا أن العدو الإسرائيلي أعلن القدس عاصمة موحدة لكيانه يوم 30 يوليو 1980 وأنه طبق على الأرض كل ما يعنيه هذا الإعلان من طمس لمعالم القدس العربية وحفريات تحت الأقصى واحتلال لأحياء عربية وحصار بالمستوطنات من جميع الجهات وتنفيذ لجدار فصل عنصري لعزل القدس عن محيطها العربي وإنشاء لحدائق توراتية ومعالم سياحية ذات طابع إسرائيلي. ولكن لماذا علينا أن نستشعر الخطر على الأقصى ومن تبقى من عرب الأقصى مع هذا التصعيد الأخير؟ لأن التصعيد هذه المرة لن يتوقف حتى لو أدى إلى إحراق الأقصى أو تدميره كاملا. فما تفعله إسرائيل الآن هو الحلقة الأخيرة من التهويد وإسقاط كافة أوراق التوت والذرائع المعتادة لتحقيق الأهداف الإسرائيلية، وذلك باعتماد القانون الإسرائيلي مرجعا وحيدا لما يجري في القدس. فبعد أن فندت الأردن مزاعم صحيفة هآرتس، الناطقة بالعبرية بأن الأردن يجري مفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية، تقضي بالسماح للإسرائيليين والسياح من غير المسلمين دخول المسجد الأقصى وأداء الشعائر الدينية وتمسك الأردن بالحفاظ على الوضع القانوني للمسجد الأقصى، المتفق بشأنه في معاهدة «وادي عربة» بين الجانبين، والبروتوكولات الموقعة لاحقا، قررت إسرائيل أن تنفذ من جانب واحد حكما لقاضية إسرائيلية بالسماح لليهود بأداء شعائر تلمودية في المسجد الأقصى. وبحسب أحد أعضاء حركة فتح، فإن القرار الذي اتخذته القاضية ملكة أفيف يدعو شرطة الاحتلال لتوفير الأمن والحماية للمتطرفين الذين يقومون بأداء هذه الشعائر. ويبدو أن وزير الزراعة الإسرائيلي المتطرف (يوري أريل) والذي يذكرنا بالمقبور (اريل شارون) اسما وفكرا هو من يقود الحملة الحالية للإجهاز على الأقصى باقتحامه للمسجد عدة مرات مع جماعات من الصهاينة المتشددين وتلاوة تعاليم تلمودية في جنباته بهدف استفزاز المرابطين بداخله من المقدسيين الصامدين. والخوف كل الخوف هو أن يكون استفزاز الفلسطينيين هذه المرة مقدمة لإشعال متعمد للقدس والضفة لإجبار الفلسطينيين على انتفاضة جديدة لإيجاد المبرر لنشر قوات الاحتلال بكثافة تحول بين الفلسطينيين والوصول للحرم القدسي تمهيدا لعمل تخريبي كبير يقدم عليه فرد أو جماعة إسرائيلية متطرفة وتلفيق التهمة للفلسطينيين أو حتى لداعش. ومما يعزز احتمال حدوث مثل هذا السيناريو هو التوقيت الذي يأتي والأمة تمر بحال من التشرذم والضعف لا يمكن توقع أسوأ منها بل أن تعويد الناس على التهاون في قدسية المساجد تم بخبث على مدى عقود من خلال عمليات تفجير ينفذها أشخاص ينسبون للإسلام في العديد من المساجد في كافة أرجاء العالم الإسلامي. ليتشكل لدى الرأي العام العالمي انطباع بأن المساجد لدى المسلمين لا قدسية لها لديهم هم أنفسهم فمن باب أولى لا تكون لها قدسية لدى غيرهم. وبالتالي فإذا ما تم تدمير أو حرق المسجد الأقصى - لا سمح الله - فلن يعدو ذلك كونه مسجدا آخر مدمرا ضمن سلسلة طويلة من المساجد. وفي الختام، لا يفوتني التأكيد بأنني على علم بكافة الأعذار التي تحول بين العرب والمسلمين وبين تحرير الأقصى بالقوة، ولكن هذا لا يبرر الصمت على مختلف المستويات القطرية أو الإقليمية والدولية. فوسائل إيقاف العدو عند حده في التجرؤ على تدنيس مقدساتنا لا يتوقف على القوة العسكرية فحسب ولكن أيضا بتكثيف الضغوط السياسية على العدو وحلفائه في كافة المحافل الدولية من ناحية، وبدعم صمود الشعب الفلسطيني في البقاء على أرضه وصيانة مقدساته ومقدساتنا. فقد أثبت هذا الشعب العظيم بأنه فعلا شعب الجبارين الصامدين الذين لا يركبون السفن ولا يهاجرون طوعا، بل يتشبثون بالأرض والمقدس والعرض شاخصين بأبصارهم نحو السماء لنصرة تأتي من إله عزيز مقتدر وإنه على نصرهم لقدير..