ضيعت اسمك فذاكرتي متعبة: هل ذلك مهم حقا، أحب مناداتك بأسماء جديدة : نور.. غبطة.. شباك على الجنة.. حزن طويل... لم يعد يقتلني الفقد، حين أشتاقك يسارع حضورك البهي ليملأني ويفيض عني، فينزاح الغياب وأمتلئ بعطاياك وأغفو.. إنما يرعبني كل هذا الحزن حين يسلب كل الفراغ المنفغر بغيابك يتمطى ويتطاول، يدخل حتى في الشقوق العميقة تلك التي لم تترك أيا منها بلا فرح. يطالعني هنا وهناك بلا هوادة : أضحك لمرآتي أراه في العمق هناك في بئر عيوني التي تصارعه فلا تصرعه. يحاول مصالحتي فأرضى برفقته وحين أقبلها لا تقبلني، يريد أن يمنعني من كل نبض حياة. حتى تلك الضحكة الفارغة التي أسلخها لطفلي يمنعها عني. يريدني مخلصة لبؤسه وحده، ينقض علي مذ أفتح عيني للشمس فيشدني بخطاف معلق في قاع قلبي. قلت لك لا أبالي بافتقادك، يا لرقته بين الوحوش التي تنهش أيامي.. أتحايل عليه وأفلح. لكني أناشدك أن تعينني على هذا الحزن، تمزقت روحي في محاولة احتوائه تحت مسامي لعلهم لا يرونه في عيوني فيهربون. لم يحدث الكثير مذ صاحبت التراب سوانا.. حين كنت أسلم ضنى عمري للريح، حاولت لملمة حياتي في زوادة.. لكنها لم تتسع إلا لصورتك المبتسمة رغم أنفي. فقد تمدد الحزن وملأها وباتت ثقيلة جررتها جرا. سلكت ذاك الدرب الوعر الذي سلكه كثيرون قبلي ومازال فاغرا فاه يبتلع ويبتلع ولم يكتفِ من كل تلك الأضحيات. قماش الخيمة استمع لحكاياتنا ونواحنا فصار أكثر سماكة وحنوا لكنه لم يستطع بعد أن يغطي قلبي المكشوف للبرد والأنين حين يزور. كبر أحمد وأصبح يتقن كل أسماء أدوات الفتك.. حتى تلك التي بطل استخدامها.. يريد ما يساعده على قتل الوحش الذي نما داخله حين رأى دماءك ترسم خريطة القادم من أيامه. حين يلعب كثيرا ينسى ويسقط متهالكا في النوم، لكنه سرعان ما يقفز صارخا كل ليلة.. أحضنه فيهدأ وينام. وأتساءل عمن يهدئني. مازالت ليلى تسرح شعرها وشعر لعبتها وتصلح ثوبها وما من حفلة فالحارة القريبة غريبة ومنفى الأهل أبعد من طريق المكاتيب.. تصلنا الهبات والعطايا في غيض وفيض فنحتفل بوليمة حينا وقد نبيت على الجوع لا مشكلة. فمازلنا أحياء نحاول الهرب من الحياة لكنها لا تريد أن تفوت علينا مآسيها الوفيرة.. أسألها لم اختارتك أنت ومنحتني الحصة الأصعب، ويبقى سؤالي معلقا أطرق أعتاب الرزق فلا تفتح الأبواب إلا لعرض سخي مشبوه فأسحب ظلي ولا يتسخ.. ولكن قلبي امتلأ بالسخام.. برز لروحي أنياب تطاولت، وبت أعتقد أن تمزيق كائن بشري لم تعد مهمة صعبة خاصة بعد رؤية نشرة الأخبار. أما حين أسمع الخطابات المتلعثمة الفارغة إلا من بشائر الموت، أشعر أن باستطاعتي تمزيق ألف بشري دون رفة جفن. كزحف الجراد تصلنا النوائب موصولة وتحف بكل خيمة وتتلون بالحكايا الخائبة. حتى نبت الحقد في فراشي وعقلي ومحفظتي الصغيرة الفارغة.. تقصقص ريش أملي الذي أوقده كل صباح، ويعاود خذلاني كل ليلة. سنوات مرت على رحيلك، نبع الموت هذا لم يجف، حتى أننا أحيانا نتسلى بالعد على أصابعنا: ترى كم بقي من الوقت قبل أن يموت الكل. قد يخرج بعضنا من شرنقة المخيم فيبتلعهم البحر، أو يقعون على خيمة أجنبية في مخيم أكثر حضارة.. لم نر مؤخرا أيا من البشر العاديين، أولئك الذين يعيشون على إيقاع سوى التشتت وأطفالهم ينامون تحت سقف لا يطقطق، ربما لم يعد لهم وجود. ألم أقل لك افتقادك يسير.. أتحايل عليه وأقدر.. وتعلمت كيف أساكن الحقد أيضا. أريدك فقط أن تعينني على كل هذا الحزن.. 16-8-2015