يحدث كثيرا أن تأتي بعض الحوادث في سياق منسجم لا يخلو من إبداع، كأن تفكر في أحد أصدقاء الطفولة، وأنت في طريقك لحضور مباراة لكرة القدم فتجده بجوارك في المدرج، أو تكون طالبا مر بظرف لم يستطع معه إلا أن يذاكر فصلا في كتابه المدرسي فتأتي كل الأسئلة من ذلك الفصل. وقد يأتي الموضوع محيرا ومعقدا أكثر من هذه الصورة التي ذكرتها، كل واحد منا لديه عشرات القصص من هذا النوع، بعضهم يسرد قصته بدهشة يقينه بالقدر، وبعضهم يراها من قبيل الصدف، التي تقع مع من يلعب الورقة. وعلميا، هي ظاهرة يطلق عليها «التزامن»، ومن أهم الكتب التي تحدثت عن هذه الظاهرة بشكل علمي، كتاب «التزامن: العلم، والأسطورة، والألعبان» ل آلان كومبس ومارك هولند، الكتاب يحاول أن يقرأ هذه الظاهرة بشكل علمي، مع ذكر كثير من هذه الاستشهادات قديما وحديثا، ومن ثم دراستها بشكل علمي محض. ... بالنسبة لي كثير من حوادث التزامن تقع معي، عندما يتعلق الأمر بالكتب، طبعا أنا مؤمن بأن الكتب لها علاقة لطيفة بالقدر، وقد عرج على هذا مانغويل في كتابه «المكتبة في الليل». قبل أيام من كتابة هذا المقال حدث نقاش طويل في عملي، عن «البريد الميت»، وهو البريد الذي يصل إلى موظفين متوفين أو متقاعدين لم نعرف لهم طريقا، من الطبيعي أن يتراكم هذا النوع من البريد بشكل كبير جدا، إلى درجة أن الموظف المختص بالبريد كان منزعجا وغاضبا جدا، ولا أدل على غضبه من صعوده من القبو إلى الدور التاسع، فخلال السنوات الماضية لم يصعد إلا مرات قليلة إلى فوق، وهذه أول مرة أشاهده فيها. هذه الرسائل مصيرها في النهاية الإتلاف، وليس هناك من يملك الصلاحية لفتح ذلك البريد، كنت أفكر لو كنت مسؤولا عن بريد ليس أمامي إلا أن أتلفه، إنها فكرة مغرية لعمل سردي طويل. في المساء، قررت أن أقرأ قصة «بارتبلي النساخ» للروائي المذهل هرمان ملفل صاحب التحفة الأدبية «موبي ديك»، تحكي القصة عن محام يبحث عن نساخ نشط، وكانت الوظيفة من نصيب «بارتبلي» طبعا المحامي كانت سعيدا جدا ببارتبلي، الذي يمكث ساعات الدوام في النسخ دون أن يتحدث مع أحد، يكتفي بوجبة كعكة البندق بالزنجبيل، ويستمر في العمل المتواصل! الأغرب من هذا أنه يعمل خارج أوقات الدوام، الخطأ الذي ارتكبه المحامي أنه أمر «بارتبلي» أن يقوم بعمل آخر غير النسخ، فكانت إجابته: «أفضل أن لا أقوم بذلك»، لتصبح بعد ذلك متلازمة، فيرفض هذا النساخ أي شيء يعرض عليه، ويرفض أن يترك المكتب حتى مع انتقال المكتب إلى بناية أخرى. في النهاية تأتي الشرطة وتقود «بارتبلي» إلى السجن ويموت هناك. لم يستطع أحد أن يفسر تصرفات « بارتبلي» الغريبة، لكن بعد موته راجت إشاعة صغيرة مفادها أنه كان يعمل لسنوات في مكتب البريد، تحديدا كانت وظيفته إحراق «البريد الميت»! ختم ملفل روايته بهذه الجملة: «آه يا بارتبلي .. آه أيتها الإنسانية».