ينقل الأميركيّ هرمان مِلفل (1819 – 1891) في روايته «بارتلبي النسّاخ»، ملامحَ من حياة مدينة نيويورك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك عبر الأحداث التي تدور في مكتب أحد المحامين، الذي يطلّ على شارع وول ستريت، ويشرف على ما تموج به المدينة من متغيّرات متسارعة، تتناسب عكساً مع حالة بعض الناس، الذين يُؤْثرون البقاء في حالتهم السابقة، محتفظين بوتيرة حياتهم الرتيبة، متحدّين بطريقة ما الاجتياح الفوضويّ المتصاعد. رواية ملفل القصيرة (ترجمة زوينة آل تويه، نينوى، دمشق) تدور في مكتب المحامي الراوي، غير المسمَّى. تلتقط شذرات من اغتراب المرء المنذر بالاستفحال. يسرد الراوي بعض روتين العمل في مكتبه، يعرّف بنفسه كواحد من الحريصين على عملهم، ويبوح بعدم تفوّقه أو تميّزه في عمله، بل يقوم بعمله الروتينيّ الذي لا يستلزم منه جهداً كبيراً، ولا يرافع في قضايا حسّاسة، يستكين للمعاملات التي يتسلّمها ويتابعها، وتقتصر بمجملها على نقل الممتلكات وغيرها من المعاملات التي تحتاج متابعة من دون أن تحتاج فرَادة أو براعة. يفصّل المحامي في شرحه حالات الموظّفين الذين يعملون في مكتبه ناسخين ينقلون الأوراق ويعملون على تبييضها ونسخها، ويحتاج الأمر منهم إلى حرص ودقّة وأناة. يتحدّث عن الثلاثة الذين يعملون معه، يحلّل شخصيّاتهم ويذكر الجوانب الإيجابيّة والسلبيّة لديهم، ويحاول أن يُبقي على مسافة معهم، بحيث يفيد منهم في عمله من دون أن يضطرّ إلى الاصطدام معهم أو إرغامهم على تبديل عاداتهم وسلوكيّاتهم، بل يكيّف عمله تبعاً لما وجد أنّ موظّفيه يألفونه منه، ويتعوّدون عليه ويتقبّلونه، ويكتسب طاعتهم وثقتهم من خلاله. يؤكّد المحامي حرصه على الكتابة عن حياة ناسخي الوثائق القانونيّة الذين يعملون معه، والذين يشعر بأنّهم مجموعة مثيرة للاهتمام وفريدة بعض الشيء. يحتلّ الوافد الجديد بارتلبي موضع الاهتمام كلّه لاحقاً، ولكن قبل التركيز عليه يعرّف بالآخرين، ويصوّرهم، وهم: تيركي ونيبرز وجِنجَر نَتْ. ويشير إلى أنّ هذه ألقابهم التي توافق تصرّفاتهم الحياتيّة وتناسب شخصيّاتهم أكثر من أسمائهم الحقيقية. ومع سعي المحامي إلى توسيع عمله ينشر إعلاناً بحاجته إلى ناسخ للوثائق ليعمل في مكتبه، يتقدّم شاب نظيف مهذب، تبدو على ملامحه سيماء البؤس، كان ذلك بارتلبي الذي سيغدو مركز الاهتمام ومحطّ الأنظار، ومغيّر العادات والتقاليد في المكتب، بل حتى في حياة المحامي نفسه. وقد وظّفه المحامي بعد بضع كلمات مسروراً أن يكون بين فريق ناسخيه رجلٌ له سيماء رزينة على نحو فريد، وقد ظنّ أن ذلك سينعكس بشكل مفيد على المزاج المتقلّب لتيركي والمتّقد لنيبرز. اختار المحامي زاوية قريبة من مكتبه للناسخ الجديد بارتلبي، حرص على أن يكون على قرب منه ليسعفه عند الحاجة، وضع حاجزاً قابلاً للطيّ يحجب بارتلبي تماماً عن ناظريه، لكن ليس عن صوته، وخمّن أنه هكذا تتّحد الخصوصية والرفقة. وكما تنبّأ تماماً، أنجز بارتلبي في البداية كمّاً استثنائياً من الكتابة، وكأنه كان متعطشاً منذ مدة طويلة لشيء ينسخه، وقد بدا له أنه يمتلئ بالعمل على نسخ وثائقه من دون أي توقّف. ينكبّ على عمله بجدّ، بشكل مبهج. تبدأ حالة بارتلبي بالتسبّب للمحامي بالإرباكات المتعاقبة، ابتداء من رفضه التحقّق من دقّة نسخه من الوثائق التي ينسخها كلمة كلمة، وردّه على المحامي الذي طلب منه القيام بذلك بأنه يفضّل ألاّ يقوم به، ولم يملك ربّ عمله إلاّ الاستغراب بداية، ثم مراعاته تالياً، والتدبّر في حالته الغريبة، ورفضه الدائم، وتفضيله المتجدّد على عدم الإقدام على أي شيء، بل الارتكان لتلك الزاوية التي تغدو بالنسبة إليه مكتباً ومسكناً في الوقت نفسه. وقد اكتشف المحامي أن بارتلبي يقيم في المكتب بعد مدة، حين قصد صبيحة يوم أحد مكتبه، وتفاجأ بوجود بارتلبي فيه، وكانت المفاجأة مدوّية حين طلب منه بارتلبي استمهاله بعض الوقت ليسمح له بدخوله مكتبه. كانت تلك الحادثة إنذاراً خطيراً للمحامي، أوجبت عليه النبش في حياة بارتلبي المحيّرة والغامضة أكثر فأكثر، وكلما توغّل أكثر عاد بحيْرةٍ مضاعفة، ثم غدا بارتلبي عبئاً عليه، ولاسيما بعد قراره بعدم النسخ نتيجة ألم في عينيه، ثم عدم القيام بأي عمل آخر، من توصيل للبريد أو غير ذلك، ورفضه كذلك طلب المحامي منه بترك المكتب والبحث عن مسكن آخر وعمل آخر. لكن الصدمة بالنسبة للمحامي تمثّلت في إصرار بارتلبي على البقاء في مكانه وعدم مبارحته، وعدم استلامه النقود منه، وحتى بعد نقل المحامي لمكتبه من تلك البناية إلى بناية أخرى، ظلّ يلازم المدخل، ويقيم على الدرج، ما دفع بالسكان إلى الشكوى، وإلزام المحامي بإيجاد حل له، لكن بارتلبي كان يرفض كل الحلول المقترحة، ويكتفي بتفضيله البقاء في تلك الحالة، وكأنه يحتج على كل شيء بذلك السلوك الغريب. يتقدّم الناس بشكاوى إلى الشرطة التي تقود بارتلبي إلى السجن، لكنها تمنحه هامشاً للتحرّك داخل السجن، ولا تضيّق عليه باعتباره لم يرتكب أي جرم يستوجب العقاب عليه، وقد ظلّ في السجن وحيداً منعزلاً، مكتفياً بالجلوس في حالته التي يرثى لها، بينما جسده الضئيل يذوي باطّراد وتسارع، جرّاء عدم تغذيته، وكانت النتيجة المتوقعة التي لابدّ منها وهي موته في السجن. وقد شكّل موته صدمة أخرى للمحامي، الذي لم يستطع فكّ ألغاز حياة بارتلبي النسّاخ ولا معرفة دوافعه وأسبابه، لكنّه ينقل الإشاعة التي تناهت إليه لاحقاً حوله. يؤكّد الراوي أنه لا حاجة إلى التوغّل أكثر في القصة، لأن الخيال وحده قادر أن يثري الحكاية الهزيلة لموت بارتلبي المسكين، ويجيب بأنه يشارك القارئ الفضول لاكتشاف لغزه، ويبوح بالإشاعة التي تداولها الناس، والتي ذكرت أنّه كان تابعاً في مكتب الرسائل الميتة، تلك التي لا تصل إلى مستلميها المُفترَضين. ويصرّح المحامي بشعوره أن الرسائل الميتة تشبه البشر الميتين، ويجد العذر لبارتلبي في شحوبه الذي ضاعفه عمله الغريب ذاك. ملفل الذي تحتلّ روايته «موبي ديك» مكانة مرموقة بين كلاسيكيات الأدب الأميركي والعالمي، والتي نالت الشهرة والاهتمام بعد حوالى نصف قرن من كتابتها وبعد موت مؤلّفها، والتي تدور حول صراع ضارٍ بين حوتٍ وإنسان، وترمز إلى الصراع الذي استشرفه ملفل وتنبّأ به بين الإنسان ووحوشه، يتألّم في «بارتلبي النسّاخ» لأنّ الرسائل الميتة التي كان يفترض بها أن تفرح قلوب البعض وتنقل إلى آخرين أخبار ذويهم وأحبائهم تحرَق بعد إعادتها إلى المكتب، وكأنها في رحلتها لإنجاز مهمّاتها في الحياة تغُذّ سيرها نحو الموت، وكأن بارتلبي نفسه يتماهى معها، ويقرّر أن يصبح رسالة ميتة تنتظر نهايتها المحتّمة. ويختصر بذلك مصائر البشر الذين توجّهت إليهم تلك الرسائل الميتة. يكون في رثاء ملفل لناسخه بارتلبي رثاء للإنسانية، ويختصر رثاءَه في صرخته التي يختم بها حكايته، حين يتأوّه راويه قائلاً: «آهٍ يا بارتلبي! آهٍ أيتها الإنسانية!». وقد تكون تلك الصرخة النادبة المتفجّعة رسالة ملفل إلى جيله والأجيال اللاحقة بوجوب إيصال الرسائل، وعدم التسبّب بمضاعفة اليأس والشحوب عند أولئك الواقعين تحت ضغوطات مختلفة، بحيث يوجب البحث عن مخارج لا سدّ الذرائع أو إحراق الرسائل الميتة، ومواساة البشر الذين لا يعثرون على مَن يفرّج عنهم كروبهم أو يخفّف عنهم وحشتهم وقهرهم المتنامي.