لم يكن حرق الطفل الفلسطيني علي الدوابشة، جريمة إسرائيل الأولى، فيدينها مجلس الأمن بالإجماع، ولم تكن الجريمة الأبشع فتشجبها الولاياتالمتحدةالأمريكية بتلك اللغة، ولن تكون جريمة إسرائيل الأخيرة، فتدين إسرائيل مستوطنيها وتصفهم لأول مرة بالإرهابيين. ما الذي تغير في سياسة إسرائيل؟ وهل هي استراتيجية جديدة؟ وما الذي تريد أن تقوله إسرائيل بنأيها بإسرائيل الرسمية عن سلوك المستوطنين الإرهابي؟ هي كيمياء الضغوطات الحكومية اليمينية المتطرفة لتجاوز المزيد من الخطوط الفلسطينية الحمراء سواء مع بناء المستوطنات ونهب الأراضي في الضفة الغربية، أو مع مشروع تهويد القدس؟ هل هو الهدوء الذي يسبق العاصفة مع فلسطينيي 48؟ هل أرادت إسرائيل بهذا النهج استباق ما قد تفضي إليه محكمة الجنايات الدولية من محاكمة قادة إسرائيليين سياسيين وعسكريين؟ أم أنها رسالة للرأي العام العالمي وتحديدا الأوروبي لإعادة إنتاج الصورة الإسرائيلية «الجميلة» «الضحية» والتي تضررت جراء مقاطعة المنتجات الإسرائيلية في المستوطنات، فضلا عن تنامي تلك المقاطعة أكاديميا؟ إن حرق الطفل علي الدوابشة جريمة تتجاوز الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كثيرا، جريمة تخدش ضمير الإنسانية وتؤذي كل إحساس وتؤلم كل مشاعر، ناهيك عما تكشف عنه من كمية الكراهية، فلم تستطع إسرائيل الرسمية بكل ما عُرفت به من إبداعات الإرهاب وابتكاراته عبر تاريخ استنباتها في المنطقة، لم تستطع أن تدافع عن هذه الجريمة، أو أن تقف بجانبها ولم تستطع أن تجد السيناريو القابل لتسويق مبررات الجريمة. لكن بشاعة الجريمة وانحطاط أخلاق مرتكبيها ليستا سببا كافيا لأن يقوم رئيس الوزراء نتنياهو، بزيارة لعائلة الدوابشة ضحايا المستوطنين ويعلن وقوفه إلى جانبهم ضد الإرهاب. فإسرائيل هذه لا تزال تحرق الفلسطينيين وتحرق محاصيلهم الزراعية وتحرق مدارسهم وتحرق قلوبهم وتحرق أحلامهم بالدولة الفلسطينية. وهي من تقتل الفلسطينيين وتهدم المنازل على رؤوس أصحابها، لعل بيوت غزة لاتزال شاهداً على أكبر مذبحة ترتكب في التاريخ وأطلالها لا تزال ماثلة تلعن من شرد شعبا بأكمله وأرغمه على الهجرة تلو الهجرة والمخيم تلو المخيم، لينتهي بهم المطاف في سجن غزة المحاصر. هناك قناعة لدى العديد من الأوساط الإعلامية الغربية بأن ما قام به المستوطنون في هذه الجريمة، هو نتيجة تحريض مستمر تقوم به إسرائيل بحاخاماتها وزعاماتها السياسيين، ولا تستطيع إسرائيل بذكائها استغباء الرأي العام العالمي، فإسرائيل تكافئ المستوطنين على انتهاكاتهم شبه اليومية لحقوق الشعب الفلسطيني. وهذا لا يستقيم مع ما تحاول إسرائيل أن تقوله من خلال نأيها عن سلوك المستوطنين اليهود. لكن إسرائيل تستشعر المرحلة القادمة وما ستكون عليه المنطقة بعد فصول الربيع العربي، وما ستؤول إليه المنطقة بعد أن تتضح الصور الباهتة في العديد من بؤر الصراع والمواجهات في ضوء توقيع إيران مؤخرا الاتفاق النووي مع الدول الخمس+1، وقد وصلت إلى قناعة بقبول إيران كقوة إقليمية غير تقليدية، فضلا عن الفجوة المتنامية بين إسرائيل وبين الإدارة الأمريكية الحالية في الملف الإيراني تحديدا، وهو ما سينعكس على عدد من الأزمات في المنطقة. تستطيع إسرائيل أن تحاول إقناع العالم البعيد بأنها دولة «ديموقراطية» و«مدنية» و«دولة قانون ومؤسسات»، لكنها لا تجرؤ على محاولة إقناع الدول والشعوب العربية وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني سوى بحقيقتها وهي أنها كيان غاصب تقوم عقيدته على العنصرية والكراهية والإرهاب، ولو كان لديها مشروع حضاري خلافا لهذا المشروع لما ترددت بتقديمه وتسويقه لشعوب المنطقة منذ زمن. إسرائيل تراهن على أنها ستكسب المئة عام المقبلة كما ربحت المئة عام المنصرمة، من خلال لعبة أممية جديدة يُتوِجُها مؤتمر دولي ومعاهدة دولية جديدة تخلط أوراق المنطقة فيعيد رسم الجغرافيا السياسية بعد الحروب العبثية التي عصفت بعدد من دولها بالتزامن مع انتهاء معاهدة سايكس بيكو، فتقدم القرارات الأممية هذه المرة خريطة جديدة لإسرائيل بمثابة طوق نجاة يخلص إسرائيل من قرارات أممية سابقة تصنفها بأنها دولة احتلال لعدد من المناطق الفلسطينية والعربية، فتبتلع ما هو تحت يدها من الأرض وفقا للمؤتمر أو المعاهدة تلك، فضلا عما يوفره لها ولقادتها السياسيين والعسكريين هذا المؤتمر من ملاذ آمن أمام محكمة الجنايات الدولية. فإسرائيل «الجديدة» مضطرة ألا تراهن على قوتها العسكرية بعد أن وجدت إسرائيل نفسها تتكبد هزيمتين متتاليتين في حرب لبنان 2006 وفي حرب غزة 2014، فضلا عن قبولها بقوة إيران الإقليمية ونديتها لها. إسرائيل عندما تصف جريمة حرق الطفل الفلسطيني بأنه عمل إرهابي، هي تعتقد أنها تتقدم خطوة باتجاه الشرق الأوسط الجديد، وهي لن تخسر شيئا مهما عندما يساوي المؤتمر الدولي بين الإرهاب الإسرائيلي والإرهاب غير الإسرائيلي في المنطقة ويضعهما في كفة واحدة، طالما أنها في الغالب لن تقبض على الجناة، ولو فعلت ستحاكمهم بطريقتها المعروفة للجميع. ومع كل ذلك، يبقى المشروع الإسرائيلي هو الأضعف بين المشروعات التركية والإيرانية والعربية لافتقاده للقاعدة الأساسية، وهي العمق الحضاري والثقافي والأخلاقي في المنطقة.