العالم يعيش، منذ إسقاط أول قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما وبعدها بأيام على مدينة نجازاكي اليابانيتين، قرب نهاية الحرب الكونية الثانية، وفق نظام فتاك دقيق وصارم للقوة. في البداية: ما كان العالم ليرضى أن تتسيد الولايات العالم وهي تحتكر هذا الرادع غير التقليدي الفتاك، وإلا فإن استقرار العالم.. بل وبقاء البشرية واستمرارها سيكونان على المحك. لذا كان لزاما تطوير نظام للتوازن غير التقليدي للقوة أطلق عليه (توازن الرعب النووي) . كان أول اختراق للاحتكار الأمريكي للسلاح النووي جاء من الاتحاد السوفيتي في أغسطس 1949، أي بعد أربع سنوات من قنبلتي هيروشيما ونجازاكي. من يومها بدأ سباق التسلح النووي يسود العالم وكانت آخر الدول، التي تمكنت من امتلاك الرادع النووي كوريا الشمالية حيث نجحت في تفجير أول قنبلة نووية لها في عام 2006.. وسجلت تفجيرا آخر في عام 2013. هذا لا يعني أن السلاح النووي حكر على أعضاء النادي النووي الدولي.... هناك دول يشك بأنها تمتلك السلاح النووي.. أو لديها الإمكانات اللازمة لتحضيره وتجهيزه في وقت قياسي، متى اتخذ قرار سيادي بهذا الخصوص.. إسرائيل تأتي في مقدمة هذه الدول. على أي حال: قرار امتلاك الرادع النووي، هو في الأساس قرار سيادي في المقام الأول، من صميم اختصاص الدول. لا توجد دولة في العالم تمتلك أو تتطلع لأن تمتلك الرادع النووي، تكتفي بتوفر حماية نووية من قبل طرف دولي آخر يمتلكه. كما لم يكن مثل هذا القرار ثمرة لتعاون مع دول أخرى، مهما بلغ شكل هذا التعاون أو حتى لنقل: التحالف بينها. قرار امتلاك الرادع النووي هو قرار وطني سيادي في المقام الأول لا تشارك الدولة في اتخاذه أو صنعه مع أية جهة دولية أخرى، مهما بلغت درجة التحالف بينهما. ومن ثم الكلام عن قنبلة إقليمية يخدم رادعها مجموعة من الدول التي تربطها ببعض أواصر قوية من التعاون والتحالف والرؤية الاستراتيجية الواحدة أو المتطابقة، إنما هو في أفضل الحالات ينم عن عدم جدية في المضي في المشروع. ذلك أن قرار امتلاك الرادع النووي يلزمه قرار آخر لا ينفك عنه، ألا وهو: قرار استخدامه أو الاستعداد لاستخدامه أو التهديد باستخدامه... قرارات مثل هذه تأتي في قمة أعمال السيادة، الخاصة بالدول وحدها. الدول عادة ما تفشل في اتخاذا قرارات جماعية في قضايا أقل مصيرية، فما بالك باتخاذ قرار مصيري من الدرجة الأولى، مثل الضغط على زر إطلاق السلاح النووي. لهذا في عصر الحرب الباردة قبلت أوروبا المظلة النووية الأمريكية، ولكنها لم تثق في أن أمريكا، إذا ما تطور وضع أمني خطير في أوروبا تتوفر فيه إمكانات التصعيد لاستخدام السلاح النووي أو التهديد باستخدامه. بريطانيا وفرنسا طورتا رادعهما النووي الخاص لقناعتهما: أنه في أية مواجهة محتملة مع السوفيت في أوروبا، لا يمكن تصور أن تضحي الولاياتالمتحدة بنيويورك أو واشنطن أو سان فرانسيسكو، من أجل لندن أو باريس أو روما. نفس السلوك نراه يتكرر في حالة الصين عندما فاجأت الشقيق الشيوعي الأكبر (الاتحاد السوفيتي) أواسط الخمسينيات بامتلاك الرادع النووي، لأن الصين لم تكن تثق بأن الاتحاد السوفيتي سوف يضحي بموسكو أو ستالين غراد أو كييف من أجل بكين، في أي مواجهة نووية محتملة بين الشرق والغرب. لماذا نذهب بعيدا. قيل الكثير عن امتلاك باكستان للرادع النووي حتى أن البعض حاول تجريد باكستان من قرارها الوطني بامتلاك السلاح النووي وأطلق على رادعها النووي (القنبلة الإسلامية)! بينما واقع الأمر أن دافع باكستان للحصول على الرادع النووي هو من أجل ردع عدوها الإقليمي (الهند) الذي كان له قصب السبق في تفجير أول قنبلة نووية في شبه القارة الهندية 1974. لقد أخذ من باكستان عقدين من الزمان لتصل لدرجة توازن الرعب النووي مع الهند، بالتالي كان مشروع باكستان في الحصول على الرادع النووي دافعه وطنيا في المقام الأول في مواجهة خصم إقليمي يمتلكه، لا ينفع معه لا التحالف مع الصين ولا حتى مع الولاياتالمتحدة لردعه. مثال آخر: إسرائيل. ألم تتعهد الولاياتالمتحدة بأمن إسرائيل وضمان تفوقها التقليدي في مواجهة الدول العربية جميعا. مع ذلك إسرائيل لا تثق ولا تطمئن لوعود واشنطن، وعملت منذ الخمسينيات على أن يكون لها رادعها النووي الخاص بها. صحيح اسرائيل لم تعلن نفسها دولة نووية، والصحيح أيضا، أنها لم توقع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. هذا جعل إسرائيل في وضع استراتيجي ممتاز يطلق عليه (الغموض البناء). إسرائيل لا تعلن عن نفسها قوة نووية، وفي نفس الوقت يكاد جيرانها يجزمون بأنها تمتلك من 200 إلى 300 رأس نووي! إسرائيل، إذن: تسخر نظرية (الغموض البناء) لتستخدم سلاحها النووي المفترض سياسيا واستراتيجيا، وكأنها بالفعل إحدى الدول النووية أعضاء النادي النووي الدولي. عربيا، إذن: من العبث الحديث عن قنبلة نووية عربية أو خليجية. في المقابل: يمكن الحديث عن قنبلة سعودية أو مصرية أو جزائرية. فقرار امتلاك القنبلة أو السعي لامتلاكها هو قرار وطني سيادي في المقام الأول، تبرره ظروف استراتيجية.. وواقع إقليمي غير مستقر، وسعي خصوم وأعداء إقليميين للحصول عليه. ليس هناك من وضع أقل استقرارا في المنطقة من احتمال حصول إيران على الرادع النووي والجزم بامتلاك إسرائيل له. وضع استراتيجي بالغ الصعوبة والتعقيد أن تكون بين فكي «كماشة نووية»: من الشرق إيران ومن الغرب إسرائيل. كلاهما عدو، وفي أفضل الحالات أحدهما عدو والآخر خصم إقليمي لدود، لا يقل عدوانية وشراسة ولا عقلانية عن الآخر (العدو).