تجربة فريدة حصلت في مدينة جدة خلال شهر رمضان لها دلالات كثيرة تؤكد كم هي بسيطة رغبات الناس وتطلعاتهم، وكم هو التضييق الذي وجدوا أنفسهم فيه ذات مرحلة سابقة أطبقت على مصادر الفرح ومنابع البهجة ولا تريد أن ترخي قبضتها عنها لكي يعود الناس كما كانوا، أسوياء طبيعيين بلا عقد وأزمات وشكوك وأوبئة اجتماعية تنخر نفوسهم. مهرجان «رمضاننا كدا» الذي احتضنته ساحات وشوارع جدة القديمة أسقط بالضربة القاضية كل التهم الباطلة التي تم إلحاقها بمجتمعنا ظلما وزورا وبهتانا، بأنه مجتمع عدواني شهواني بربري الغرائز متفلت الأخلاق عنيف النزعات، لا يمكن أن يكون في حالة انضباط أخلاقي إلا بوجود رقابة شديدة لصيقة تمنع الانهيارات الأخلاقية المؤكد حدوثها عندما يجمع مكان رجالا ونساء مهما كانت الغايات نبيلة ومهما كان وعيهم وكانت ثقافتهم وتربيتهم. هذه الوصمة الجناية التي تمصلح بها واسترزق من ورائها الكثير سقطت تماما وبصورة صارخة في مهرجان جدة الذي شهد حضور الآلاف من العوائل كل ليلة في مشهد حضاري نبيل، فقد استمتع الناس بالفنون والثقافة والعروض الفلكلورية والألوان التراثية دون حدوث تجاوزات أو مخالفات أو مشاهد صادمة للذوق العام والأخلاق المرعية التي يعرفها المجتمع. كان الإقبال الكبير للناس دليلا صارخا على توقهم للحياة الطبيعية التي افتقدوها، تخيلوا مجتمعا كمجتمع جدة بكل إرثه الحضاري وتسامحه ورقيه يتم اختطاف البسمة منه، ليعود مرة أخرى بكل فرح إلى ماضيه الجميل. ما حدث في جدة هو صورة لما يمكن أن يحدث في بقية المناطق التي سلبت منها أبجديات الفرح وحروف البهجة، وتم تحويل مفردات الماضي العريق الذي عاشت فيه أجيال وأجيال إلى آثام لا يجب اقترافها. حاولوا إطلاق مكنونات الناس الطبيعية دون حصار وسنرى كيف تعود البسمة إلى الوجوه وكيف يمكن امتصاص نسبة كبيرة من الاحتقانات. مجتمعنا ليس بالسوء الشديد الذي صوره البعض، السوء حدث لدى البعض عندما تم تحويلهم قسرا إلى كائنات لا علاقة لها بالطبيعة البشرية السوية. أعيدونا إلى الحياة وأعيدوا الحياة إلينا.