يبقى مسجد البيعة من المآثر الإسلامية التي حفظت تاريخ سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم شامخا بعد قرون مضت من انعقاد أول مؤتمر إسلامي، إذ شهد عقد أول اتفاقية سياسية في تاريخ الإسلام. ورغم التطورات والتوسعات التي شهدها مشعر منى، إلا أن مسجد البيعة ظل شامخا طوال السنوات التي مضت. ففي سنة 12 من البعثة كانت بيعة العقبة الأولى، وبايع 12 شخصا من أعيان قبيلتي الأوس والخزرج من المدينةالمنورة الرسول، كما شهد نفس الموقع في موسم حج 13 من البعثة بيعة العقبة الثانية والتي حضرها 73 رجلا وامرأتان من أهل المدينة. وفي عام 144 هجرية بنى أبو جعفر المنصور مسجدا في نفس مكان البيعة والذي يقع في الشمال الشرقي لجمرة العقبة. وفي هذا السياق، قال أستاذ الآثار والفنون الإسلامية بجامعة أم القرى الدكتور ناصر الحارثي يرحمه الله، إن هذا المسجد الواقع أسفل جبل ثبير مما يلي منى في شعب، عرف بأسماء ثلاثة «شعب الأنصار ، شعب البيعة، وشعب بيعة العقبة». بني المسجد بأمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور إحياء لذكرى هذه البيعة العظيمة التي شهدها العباس بن عبدالمطلب جد الأسرة العباسية، ويتضمن نقشين كتابيين أحدهما مؤرخ بتاريخ 14ه ثبتا في الجدار الغربي للقبلة.. وقد أجريت لهذا المسجد عدة تجديدات بعد ذلك، من أهمها عمارة الخليفة العباسي المستنصر بالله له عام 625ه، كما هو موضح في نقش كتابي كان ملقى ضمن المسجد زمن الفاسي، ثم ثبت في الجدار الجنوبي في آخر عمارة لمسجد البيعة في العصر العثماني، ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد. - أمر بعمارته سيدنا ومولانا الإمام المفترض الطاعة على كافة الأنام أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين أعز الله أنصاره وضاعف اقتداره. وجاء في كتاب الأماكن المتواترة في مكةالمكرمة للدكتور عبدالوهاب ابراهيم ابو سليمان: أنه «لايزال موجودا في بنائه القديم، قمت مع بعض الزملاء بزيارته يوم كان متواريا خلف جبل العقبة قبل نسفه فوجدناه مهملا، نزع بابه، لم يعط الاهتمام اللائق بتاريخه في الاسلام». وفي زيارة بحثية عام 1421ه عثر كل من عبدالوهاب ابو سليمان ومعراج نواب مرزا على الحجر الثالث الضائع الذي اشار اليه تقي الدين الفاسي المكي في الحائط الغربي للمسجد مغطى بطبقة من الدهان الأبيض. كان هذا المسجد متواريا من وراء جبل العقبة الضخم الذي يعد الحد الطبيعي لمنى في الناحية الغربية، لم يكن هذا المسجد معروفا إلا لمن قرأ عنه وقصده، وكان وضع هذا المسجد واستتاره من وراء ذلك الجبل الضخم في ذلك الشعيب الذي يسمى ب (شعيب البيعة) محققا تماما كما وصفه العلامة الازرقي وغيره من المؤرخين، اعتبره بعض الصحفيين بعد ظهوره اكتشافا أثريا جديدا. وفي الوقت الحاضر أصبح المسجد ببنائه القديم ظاهرا بارزا للعيان بعد إزالة جبل العقبة، حيث تمت إزالة الجبل الضخم عام 1428ه، بعد عمل شاق متواصل ليل نهار لمدة عامين بآليات حديثة واستعمال الديناميت المفجر للصخر ضمن مشروع تطوير وتحسين الجمرات الأخير. وقد برز مسجد البيعة كموقع تاريخي إسلامي يقصده الحجاج والمعتمرون في كافة المواسم حيث تمتلئ باحاته بالمهتمين بالآثار وعشاق خطى الهدي النبوي كتوثيق تاريخي ومرحلة مفصلية في تاريخ الإسلام المبكر، وقامت هيئة السياحة والتراث الوطني بتسوير المسجد وإضافة الأبواب له وتهيئته للزوار والمهتمين.