الدين له جناحان؛ الفقه وهو القانون الشرعي، والجناح الآخر المعرفة الروحية المحكمة «الحكمة الربانية» ولهذا في القرآن لم يذكر الفقه إلا وذكر معه جناح الحكمة (الكتاب والحكمة) (الربانيون والأحبار) «الأحبار: خبراء القانون الشرعي، الربانيون: خبراء الحكمة الروحية» لكن للأسف علم الحكمة الروحية انقرض من المؤلفات والخطاب الإسلامي المعاصر وكان يوجد تحت تصنيف «الرقائق»، وعلم الحكمة الربانية هو الذي يبصر الناس بالغاية والمعنى والمقصد من تعاليم وشعائر وفروض الدين، ولهذا عندما تغيب الحكمة الربانية تظهر تبريرات ضعيفة وسطحية لفروض الدين، ويكثر من ينطبق عليهم وصف النبي (يقرؤون القرآن لايجاوِز حناجِرهم) وفي رواية (لا يجاوز إيمانهم حناجرهم) البخاري. ومن ذلك القول بأن الغاية من صوم رمضان الإحساس بالفقراء! والحقيقة إن مجرد الصوم لا يجعل الإنسان يحس بإحساس الفقير الذي ليس لديه اليقين الذي لدى الصائم بأن مائدة عامرة بكل ما لذا وطاب تنتظره، فما يؤلم الفقير ليس الجوع المؤقت بل هو خوف من جوع دائم ومعاناة مع الظلم الاجتماعي وعدم توفر المسكن والعلاج اللازم والعمل والدخل وغيرها من الاساسيات التي لا يمكن الاحساس بألم عوزها بالصوم، فالحقيقة إن الصيام هو رياضة روحية لتدريب النفس على التحكم بنزعاتها الغرائزية وإلزامها بالمثاليات العليا ولهذا أوصى النبي بالصيام لتكريس العفة، وقال عليه السلام (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) البخاري. والزور كل ما يجانب الصواب والحق، ومعنى الحديث أن الذي لا يعي الغاية الجوهرية للصيام وهي تدريب الإنسان على إمساك نفسه عن ميولها السلبية المناقضة للمثاليات، فالله لا يحتاج أن يصوم له الانسان إنما الانسان بحاجة للتربية الأخلاقية السلوكية التي تحصل له بالوعي بالغاية من الصيام، فالصيام وسيلة وليس غاية، فهو وسيلة لتقوية العضلات النفسية الروحية «رياضة روحية»، بالإضافة لأن كل شعيرة تتضمن إمساكا عن النزعات الجسدية كالصيام والإحرام والاعتكاف تحول طاقة الانسان النفسية والعقلية والحيوية من الجانب الجسدي المادي إلى الجانب الروحي الفوق المادي في كيانه ليرتفع وعيه الروحي، ومن ثم هذا الوعي الروحي المرتفع يحرك الانسان ليتصرف بشكل أفضل ويتعود على هذه الانماط الفضلى على مدار شهر حتى تصبح دائمة لديه، ولهذا علامة تحقيق الانسان للغاية الجوهرية من الصيام هي أن تتحسن كل أنماطه. أما عن الاحساس بالفقير فيكفي أن يرى الانسان ويقرأ ويسمع من الفقير عن أحواله ليمكنه عبر التعاطف معه الاحساس بشعوره..