الدكتور يحيى محمود بن جنيد، علم من أعلام الثقافة والعلم في المملكة فهو الأكاديمي والأستاذ السابق في جامعة الملك سعود، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عمل محاضرا ومشرفا على عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراة، ومناقشا علميا في عدد من الجامعات. انتشرت أبحاثه العلمية في علوم الكتاب والمخطوطات، في عدد من المجلات العلمية المتخصصة، وفضلا عن ذلك كله لقيت مؤلفاته عن الوقف الإسلامي، وتاريخ الطباعة في الجزيرة العربية، والمستعصم بالله العباسي، والحياة العلمية من خلال الضوء اللامع للسخاوي، والحياة الثقافية في مكةالمكرمة، والعرب في آسيا الوسطى، والمجتمع العربي، والوقف والمجتمع، تقديرا كبيرا؛ حتى نال عن كتابه «الوقف وبنية المكتبة العربية» جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية. مشاركاته في المجال الثقافي تميزت بأبعاد فكرية، أسهمت في الكشف عن قضايا كانت غائبة عن المشهد العام، منها تساؤلاته عن (كيف ورثنا الأمية؟) و(من يقرأ المصباح؟) و(إشكالية الفقد القسري للمعلومات)، وغيرها من الأعمال الفكرية الناقدة. مارس ابن جنيد تحقيق النصوص التراثية، فحقق (إهداء اللطائف من أخبار الطائف) للعجيمي، و(جذوة الاقتباس في نسب بني العباس) لمحمد مرتضى الزبيدي، و(رفع الباس عن بني العباس) لجلال الدين السيوطي، ويتبتل منذ سنوات لإصدار تحقيق جديد لأنساب العلامة السمعاني. وقد استهوته مدن خراسان، ومرو، وسرخس، ونسا، التي تقع اليوم في جمهورية تركمانستان، فتردد إليها مرارا لاستحضار البيئة التي عاش فيها معظم علماء عصور الازدهار الإسلامية. مارس ضيفنا النشر العلمي المحكم من خلال رئاسته تحرير عدد من المجلات العلمية المتخصصة، ومنها: عالم الكتب، وعالم المخطوطات والنوادر، والإسلام والعالم المعاصر، والفيصل العلمية، وغيرها، مجسدا خبرة تراكمية في الإشراف وتوجيه أحد أهم وسائل النشر العلمي، وهي المجلات المتخصصة. ومن هنا نبدأ حوارنا مع الدكتور يحيى محمود بن جنيد الأمين العام لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية: تميزنا بمؤسسات وقفية متنوعة نلتم جائزة الملك فيصل العالمية عن كتابكم (الوقف وبنية المكتبة العربية). والوقف ظاهرة حضارية إسلامية أبرزت الثقافة الإسلامية لقرون نعم فيها المجتمع الإسلامي بمؤسسات وقفية اهتمت بالتعليم والرعاية الاجتماعية وأوعية المعرفة.. وقد أبرزتم هذا الدور في كتابكم؛ فكيف ترون المؤسسات الوقفية في حاضرنا؟ في المرحلة الراهنة هناك اتجاه مميز نحو إعادة دور الوقف في دعم بناء الدولة، وقد قوي الاتجاه في هذا الشأن بالذات في المملكة ودول الخليج أيضا. والتميز هنا هو أن هناك مؤسسات وقفية متنوعة نشأت، بالإضافة إلى ظهور كتابات ومعايير ومحاولات لوضع أنظمة حتى باتت القضية شبه متكاملة، وأصبح هناك اهتمام بنشر أعمال تتعلق بالوقف؛ من كتب ودراسات متعددة ومتنوعة تهتم بهذه القضية. والظاهرة هنا في المملكة، هي أن الوقف متنوع؛ فهناك أوقاف للأيتام وكبار السن، وأوقاف لتحفيظ القرآن، وأوقاف لمؤسسات علمية، وهذا التنوع يعيد إلى أذهاننا صورة مشرقة عن اهتمام العرب والمسلمين في القديم بقضية الوقف الذي كان - في الأصل - المحرك والداعم الحقيقي لبناء الدولة كما هو واقعه المعاصر في الغرب حاليا من خلال استخداماته في مجالات التعليم، على النمط نفسه من الأوقاف التي استخدمت في الإسلام؛ فالمكتبات، والمدارس، ودور الأيتام، كانت تعيش من خلال الوقف، وكذلك الخانات التي كانت تستقبل الغرباء والمسافرين وعابري السبيل؛ بالإضافة إلى إنشاء الطرقات وما إلى ذلك. كل هذه الأمور كانت تتم من خلال الوقف في الإسلام، وهو ما يفعله اليوم العالم الغربي، وكأنه يعود الآن إلى المنطقة العربية من خلال الصورة التي تتبلور اليوم في المملكة ودول الخليج. مؤامرات لإسقاط الحديث النبوي رموز عظيمة أغنت تاريخنا الإسلامي، ووثقت الكثير من علومه، وأمدتنا بمصادر أساسية في السيرة، وعلم الحديث، وكتب الطبقات، وفي علوم الفقه والتفسير والتاريخ وغيرها.. بينما نشهد في وقتنا الحاضر هجمات شرسة على تلك الرموز لتنال منها وتشكك في عدد من المصادر الأساسية، ومنها التشكيك في الإمام البخاري وغيره.. ما رؤيتكم حيال ذلك؟ المؤسف أن الهجمة على الحديث النبوي الشريف هي - في حقيقتها - هجمة على الإسلام، ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. والتعرض للإمام البخاري جزء من خطة خبيثة هدفها تدمير العقيدة الإسلامية بأكملها. فعندما نبدأ بالإمام البخاري، ونحاول نسف بعض أحاديثه بوصفها أحاديث غير صحيحة، فإننا نهدم بذلك جزئية بالغة الأهمية من عقيدتنا، وهذا لا يعني أنني أدعو إلى الجمود، ولكني ضد استغلال الحرية إلى التجاوز بغرض الهدم واقتلاع الثوابت، والنيل من أعلام الإسلام. لقد لاحظت أن من يقتحم ميدان الهجوم على السنة والسيرة هم أنماط من البشر؛ بعضهم جاهل لا علاقة له بعلم الحديث، أو التاريخ، أو الدين، وبعضهم يطعن في الإمام البخاري بالمكر نفسه الذي مارسه بعض المستشرقين قديما. والطعن في الإمام البخاري هو طعن في الحديث النبوي الشريف ومن ثم؛ فإن نسف هذه الأحاديث يفضي إلى نسف قاعدة أساسية من قواعد الإسلام. وأعتقد أن من أشرس من خاضوا هذه القضية: معروف الرصافي، في كتابه «الشخصية المحمدية» الذي اعتبر فيه النبي محمدا صلى الله عليه وسلم مجرد شخصية قيادية وليس نبيا. وهذا الكتاب لم يخرج في زمن الرصافي، وظل مخفيا فترة طويلة قبل أن يرى النور في السنوات الأخيرة، ويصبح متداولا بين الناس، وقد اتخذ من الهجوم على الحديث النبوي طريقا إلى ذلك. ومن المؤلفات التي تقدح في الحديث النبوي، وفي الإسلام عموما، ما طرحه شاكر النابلسي في كتابيه «المال والهلال»، و«جراب الحاوي». ومن الأعمال التي انصبت على محاولة هدم الحديث النبوي والهجوم على الإمامين البخاري ومسلم: ما صنعه أحمد شوقي الفنجري في كتابه «خمسة آلاف حديث في البخاري ومسلم تتناقض مع القرآن والعلم والعقل»، وزكريا أوزون في كتابه «جناية البخاري: إنقاذ الدين من إمام المحدثين». ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء كذلك: سيد القمني وخليل عبدالكريم، وغيرهم. وقد تجاوزوا جميعا الحديث عن هدم السيرة إلى الخروج بأفكار وآراء لو شاعت فإنها تسعى لهدم الدين والتاريخ الإسلامي بأكمله. أما رأس المنكرين للحديث، وصاحب الدعوة إلى الاعتماد على القرآن وحده ونبذ الحديث جملة واحدة، فهو: أحمد صبحي منصور، وهو أزهري طرد من مصر فلجأ إلى الولاياتالمتحدة، ولم يتردد في الظهور في قناة تنصيرية لينقد الحديث النبوي الشريف في حلقات من برنامج يعده متنصر مغربي يدعى رشيد. دراسة التراث تكشف التناقضات لديكم أكثر من دراسة استخلصتموها من المصادر، مثل ما كتبه السخاوي في كتابه (الضوء اللامع) وغيره حول التاريخ الثقافي المكي ورجالاته. فهل تنوون استكمال تلك الحلقات بحثا في المصادر الأخرى؟ أنا أعتقد بغير شك أن كتب التراث كنز اكتشف واستخدم، وأننا كلما تعمقنا في قراءة هذا التراث فسيكون الاستخدام أعظم وأكثر نفعا. لقد استفدت من «الضوء اللامع» في الحديث عن الحياة العلمية في القرن التاسع الهجري، واستفدت من كتب أخرى في إظهار قضايا علمية تراثية مختلفة، فمثلا في كتابي «المجتمع العربي من سيادة العلم إلى وحل الخرافة» اعتمدت على التراث لإبراز كيف اهتم العرب والمسلمون في القديم بالعلم التطبيقي، ثم كيف انحدر الأمر بهم - فيما بعد - إلى الوقوع في شرك الخرافات والشعوذة، والتوجه نحو التصوف الخرافي، ولا أقصد التصوف بمفهومه الزهدي. وحاليا قمت، من خلال كتب التراث أيضا، بإعداد دراسة -وقد أنجزتها ولله الحمد- عن الإمام أبي سعد عبدالكريم بن محمد السمعاني المتوفى سنة 562ه لإظهار كيف كانت نضارة الحياة العلمية والتسامح والرقي العلمي عند علماء المسلمين في عصره، وكيف كان التمازج؛ فالسمعاني عربي من قبيلة تميم، عاش في مدينة مرو في خراسان، وأصبح هو، ومن قبله أسلافه، من سادة المنطقة، ومن العظماء فيها بتقدير متبادل مع المجتمع المحيط به. وهذا كله موجود في الموروث الخاص بالتراث العربي، وبإمعان النظر فيه نستطيع أن نستخلص كثيرا من الأمور التي ربما لا تتفق أحيانا مع توجهات أشخاص معاصرين يعالجون الأمور بطريقة مختلفة عن شخص السمعاني، الذي كان متسامحا في حياته، ويفخر بأنه تعلم على يد شيخات، يشير إلى مآثرهن، ويذكر ما أخذه عنهن. فدراسة التراث تكشف جوانب كثيرة من التناقضات بين الحاضر والماضي الذي كان يسوده جو عظيم من التسامح، وروح التحرر، وحب المعرفة، دون النظر إلى الجنس، أو العقيدة، فبالرغم من اختلاف العقائد، كان هناك جانب من الاحترام في تقبل هذا الاختلاف. كتبت سيرة «السمعاني» من خلال كتابه يحوز (الأنساب) وصاحبه السمعاني اهتمامكم منذ سنوات، وتعلمون أن كتابه طبع أكثر من مرة، فما مشروعكم عن السمعاني، بالإضافة إلى ما ذكرته في السؤال السابق؟ لدي اتجاهان، الأول: وضعت كتابا مستقلا عن السمعاني، قسمته إلى أربعة أبواب، وتناولت فيه التكوين الاسمي، وهو انتماؤه إلى قبيلة تميم، وانتشار العرب في أواسط آسيا وخراسان، والتكوين المكاني الذي نشأ فيه بمدينة «مرو» في خراسان، ثم كيف أسهم عامل الاثنية إلى جانب المدينة في تكوين هذه الشخصية، كما تطرقت إلى حياته العلمية، وأوضحت الأسس التي بنى عليها ثقافته وعلمه، واستعرضت مؤلفاته، وخضت فيها بطريقة جديدة، حيث تتبعت ما هو موجود منها، وما هو مفقود، ومنها كتاب «الأنساب»، وأخيرا تناولت أثر السمعاني في الثقافة العربية، وكيف نما تأثيره بحيث أصبح من المراجع الأساسية من خلال كتبه، مثل: «الأنساب»، و«ذيل تاريخ بغداد»، وكتابه التربوي الرائع «أدب الإملاء والاستملاء». والاتجاه الآخر: هو أنني استخلصت سيرة السمعاني من كتابه «الأنساب»؛ لأنه في كتابه هذا يتحدث عن نفسه في مواقف وأماكن كثيرة، وهو كتاب مبني على الأنساب؛ سواء إلى قبيلة، أو إلى مكان، أو زمان، أو حتى حرفة يزاولها المرء، ومرتب أبجديا. فالسمعاني في خضم حديثه عن بعض من ترجم لهم يشير إلى أنه مر بالمدينة الفلانية، وسمع الشيخ الفلاني، ودرس مع العالم الفلاني، وقرأ الكتاب الفلاني، وهكذا. فكتبت سيرته من خلال كتابه هذا اعتمادا على خمس نسخ مطبوعة، وخمس نسخ مخطوطة. والنسخ الخمس هي طبعات مختلفة لهذا الكتاب، لكنها -ويا للأسف الشديد- مع أنها خمس طبعات، لكن يظل الكتاب في حاجة شديدة إلى التدقيق، فمن خلال قراءتي اكتشفت فيه أخطاء كثيرة؛ ما يعني أنه يحتاج إلى أن يعاد تحقيقه على نسخ كثيرة لم يطلع عليها الذين قاموا بنشره من قبل، وهناك ما يقرب من ثلاثين نسخة مخطوطة لكتاب السمعاني موجودة في أماكن كثيرة من العالم لو جمعت وحصرت سيخرج هذا الكتاب بالصورة اللائقة به. وهو مشروع من المشروعات المطروحة من خلال مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بقيادة مجموعة من الباحثين لإعادة تحقيق هذه النخبة من المخطوطات، وجزء كبير منها موجود في المركز الآن. وحل الخرافة لايزال موجودا يتميز كتابكم «المجتمع العربي من سيادة العلم إلى وحل الخرافة»، باحتوائه على اقتباسات مطولة أوردتموها لتكون شواهد قاطعة على المسارين، وختمتموه بمناقشة كيفية النجاة من وحل التخلف.. هل لنا بإضاءة على هذه الجزئية؟ هذا الكتاب نشأ - في الأصل - من فكرة طورتها عن كتاب سابق كنت قد نشرته حلقات في جريدة الرياض، ثم توسعت فيها وأصدرته في كتاب بعنوان: «كيف ورثنا الأمية: أسس الحضارة وعوامل السقوط»، وكان الهدف الفعلي هو أن الفكر أو منهج الفكر في تاريخ الإسلام عبر قرون (من القرن الثاني إلى الخامس) كان يرتكز على العلم وظهر فيه أساتذة كبار من المفكرين في العلوم التطبيقية بشكل عام، مثل: الحسن بن الهيثم، وجابر بن حيان، والفارابي، وابن سينا. كل هؤلاء قدموا الشيء الكثير من العلم الذي نفخر به، ولكن أتت فترة ركود وتقاعس تغيرت فيها منهجية الفكر نفسه، ولم يعد موجودا ذلك الاهتمام الموسع بالعلم التطبيقي المعروف، وتحولت القضية إلى الاهتمام بالاجترار، وحتى في مجال العلم النظري، كان هناك رقي في التنظير، ولكن أتت علينا فترات بعد سقوط بغداد، هي فترات اجترار وتكرار للأفكار المدونة، وما صاحبها من الشروح والحواشي والتهميشات والتذييلات، وما إلى ذلك، بحيث غاب الفكر الإبداعي، وحل محله فكر متخلف تجاوز مرحلة الاجترار، إلى معالجة قضايا تافهة، والدليل أننا إذا رجعنا إلى كتب التراجم في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين سنرى عناوين عجيبة ومضحكة تناولها المفكرون والكتاب على عكس ما كنا نراه في القرون الأولى. كيف حدث هذا، وما أسباب التراجع، هذه هي القضية التي عالجتها جزئيا في الكتاب. ولكن تظل القضية في حاجة إلى معالجات أفضل وأوسع من قبل الباحثين. وأستطيع أن أؤكد أن وحل الخرافة لايزال موجودا، وبالرغم من وجود حراك علمي مصحوب بتطور وتوجه قوي نحو العلوم التطبيقية، إلا أن الخرافة أيضا بدأت تتطور بقوة، وتتجلى في أنساق جديدة، وتلقى دعما من جهات كثيرة حريصة على استمرارها، وعلى شيوع أثرها في المجتمع؛ بحيث إننا نعجب أحيانا كيف سنرقى فعلا ونحن أسرى لأفكار خرافية شائعة في المنطقة العربية والإسلامية بشكل عام. نفكر في إيقاف «عالم الكتب» مجلة عالم المخطوطات والنوادر التي ترأسون تحريرها لاتزال مرابطة على ثغر من ثغور تحقيق التراث العربي المخطوط ونشره، فهل وجدتم دعما من وزارة الثقافة والإعلام والجهات ذات الصلة يعين على استمرارها؟ مجلة «عالم المخطوطات والنوادر» الصادرة عن دار ثقيف للنشر والتوزيع، ومعها أيضا المجلة الأساس «عالم الكتب» كانتا - مع دوريات أخرى - تحظيان بدعم الدولة من خلال وزارة الثقافة والإعلام عندما كانت «وزارة الإعلام». ثم جاءت فترة، قطع فيها هذا الدعم نهائيا، وأثر ذلك كثيرا في المستوى والقدرة على التواصل؛ لأن هذه المجلات جميعها تصدر عن دور نشر خاصة، وفي حاجة ماسة إلى الدعم، خاصة في ظل قلة الاشتراكات التي هي في الأصل ضعيفة جدا. ومع أن الوزارة كان لديها كم لا بأس به من الاشتراكات، إلا أنها خفضتها تزامنا مع توقف الدعم، وهو ما زاد من حدة المشكلة. وتصور أنك تصدر مجلتين بكل ما تتكلفانه من مقر تستأجره، وتعيين محررين والاستعانة بكتاب، ورصد مكافآت، ثم بعد كل هذه الالتزامات والنفقات تجد الاشتراكات ضعيفة جدا ومتراجعة ولا يتوافر لها الدعم، ما جعلنا نفكر في إيقاف إصدار المجلتين: عالم الكتب، وعالم المخطوطات، لأنه من الصعب الاستمرار في ظل هذه الظروف. وأسباب التراجع تعود إلى أن الاهتمام بمثل هاتين المجلتين ضعيف، لأنهما متخصصتان، فالأولى: متخصصة في قضايا الكتاب والمكتبات، والأخرى: في قضايا المخطوطات، ما يعني أنهما لا يقرأهما إلا المتخصصون أو بعض الجهات العلمية التي تشترك في عدد محدود من النسخ تعد على أصابع اليد؛ ولذلك فمن المحتمل أننا - خلال عام أو عامين - قد نتوقف عن إصدارهما؛ ما لم تحدث تطورات إيجابية تعين على استمرارهما، وهو ما نأمله. أنجز مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية أعمالا كثيرة تجلت في سلسلة منشورات، شملت اللغة، والتاريخ، والدراسات الإسلامية والاجتماعية، فضلا عن جهود المركز في التوثيق وإمداد الباحثين بمصادر المعلومات من خلال مكتبة المركز. ما هي طموحاتكم المستقبلية لتطوير رسالة المركز؟ المركز في المرحلة الراهنة متوجه نحو الاهتمام بالبحث العلمي، وتقديم بحوث ودراسات معاصرة تتناول قضايا العصر بشكل مباشر، وهذا الذي نسعى إلى تنميته، وهو ما يحدث الآن من خلال تطوير إدارة البحوث والدراسات لتكون متفاعلة مع مجريات العصر. وهذه الإدارة تقوم بنشاط جيد من خلال إصدار نشرات وسلسلات؛ منها دورية اسمها (مسارات) تصدر شهريا وتلقي الضوء على قضية من القضايا. وهناك سلسلة اسمها (دراسات) تتناول قضايا علمية. وسلسلة أخرى اسمها (قراءات)، ومن خلال هذه المجموعة من الأعمال نسعى لتطوير البحث العلمي دون نسيان النشاطات الأخرى التي اشتهر بها المركز، ومنها: المكتبة التي تقوم بنشاط محمود على مستوى المملكة والعالم العربي؛ بالإضافة إلى النشر المميز الذي يقوم به المركز في مجال التراث. ولا تنس أن المركز يمتلك واحدة من أبرع وحدات ترميم المخطوطات والوثائق على مستوى العالم. وهذه الأمور نحن مستمرون في تطويرها، بالإضافة إلى البرنامج الثقافي السنوي الذي نستقطب فيه سنويا مجموعة من المحاضرين المتميزين من داخل المملكة وخارجها، وكذلك ما نعقده من حلقات النقاش والمؤتمرات. استخلصتم دروسا من بعض قراءاتكم، منها تحليلاتكم لما كان ينشر في مجلة المصباح اليهودية التي كانت تصدر من بغداد، وكتبتم سلسلة مقالات في جريدة الرياض بعنوان (من يقرأ المصباح؟) كشفتم فيها: كيف يفكر الأعداء.. فهل تواصل هذا الكشف ليطال قضايا أخرى كالماسونية والتغريب في مجتمعنا؟ بالنسبة إلى المصباح، فقد طالعتها حينما كنت أعمل في مكتبة جامعة الملك سعود، ومن خلالها رأيت كيف كان اليهود يخططون لإقامة دولتهم علنا من خلال أخبار وتقارير تظهر توجها واضحا نحو الاستيطان، ونحو تكوين دولة، ولكن مع الأسف لم يكن هناك من يتابع هذه الطروحات. وبالرغم من أنها كانت مجلة أدبية، إلا أنها حوت أخبارا عن المستوطنين الذين يصلون من الخارج، ونشاط اليهود داخل فلسطين، ولكن يبدو أنه في تلك المرحلة أسهم الاستعمار البريطاني، والوجود اليهودي في العراق في تسهيل نشر مجلة المصباح، وهي ليست المجلة الوحيدة من نوعها؛ بل كانت هناك مجلات أخرى تصدر في بلدان عربية أخرى من قبل اليهود. وهناك دراسة شاملة أصدرها أحد الباحثين عن هذه القضية، أما أنا فقد نشرت كتاب «من يقرأ المصباح» وركزت فيه على ما كان ينشر فيها من أخبار واضحة عن النشاط اليهودي العالمي في فلسطين في فترة الثلاثينيات الميلادية، وكيف غفل العرب عن متابعة تلك الطروحات، وكان الناتج الكارثي، هو ما حدث فيما بعد في عام 1948م. حاولتم في كتابكم عن (المستعصم بالله العباسي) تصحيح الرؤية حول هذا الخليفة، الأمر الذي يوحي بأن في تاريخنا ما يشوبه من شوائب، فكيف ترون جهود ومحاولات تصحيح التاريخ في الوقت الحاضر؟ هناك أمور كثيرة تحتاج - من دون شك - إلى تصحيح، لأن التاريخ مهما قلنا كان يكتب أحيانا بهوى. وكان هناك من يظهر قبائح الآخرين أو حسنات فئات معينة بحسب ميوله، وما يمكن أن أكون قد اكتشفته من خلال كتابي عن المستعصم بالله، أن الأفكار التي استخرجت وطرحت كانت متناقضة؛ فكانت هناك روايات تقول إنه رجل تقي ويصوم يومي الاثنين والخميس، وحافظ للقرآن، وفي الوقت نفسه كانت هناك روايات أخرى تؤكد أنه رجل فاسق يهدر الأموال ومغفل. وفي النهاية، وبالموازنة بين هذه التناقضات التي أشرت إليها في الكتاب، وجدت أن ما طرح عنه كان فيه كثير من التحامل. وهذا التحامل بات مسلمة من قبل بعض المؤرخين، إلى أن وصلنا في المرحلة الراهنة والصورة السائدة أن المستعصم بالله كان رجلا مملوءا بالتناقضات في شخصيته وسلوكياته. لكن عند التحليل والنظر الثاقب، ستتجلى لك الصورة الحقيقية، وهي أن المستعصم بالله لم يكن كما ذكر في عدد من المراجع، غير أنه جاء خليفة في فترة كان من المؤكد أن الدولة سوف تسقط، وكانت الظروف مهيأة للمغول لاكتساح الدولة بسبب تشتت العالم الإسلامي وضعفه وتمزقه إلى دويلات، وهو ما سهل لهم اكتساح الشرق بأكمله، وجعلهم يصلون إلى بغداد، ويتوسعون إلى غيرها، إلى أن قيض الله لهم أن ينهزموا فيما بعد. إذن لم يكن بإمكان الخليفة إيقاف هذا المد آنذاك نتيجة لتراكمات لم يكن سببا فيها، فلم يستطع الصمود أمامها، أو يقدم أكثر مما قدم. كانت تربطكم بالأستاذين العلامة حمد الجاسر وعبدالعزيز الرفاعي -رحمهما الله- علاقات ثقافية وعملية وطيدة. نود أن تعلقوا على تلك العلاقات، وكيف انعكست على شخصية الدكتور يحيى بن جنيد؟ قد لا تكون انعكست على تكويني الشخصي، ولكني استفدت من هذه العلاقات، فالشيخ حمد الجاسر شخصية علمية جليلة، وكانت لي به صلات طيبة، وبلغ إعجابي به حدا أنني عملت عنه «ببليوجرافيا» ضمنتها في كتاب عن حياته وأعماله، وأصدرته خلال فترة عملي أمينا عاما لمكتبة الملك فهد الوطنية. لقد استفدت من دأبه في عمله وحرصه على المعرفة، وكيف كان مساندا للآخرين. أما الشيخ عبدالعزيز الرفاعي فهو مدرسة تعلمت فيها الكثير، وكنت قريبا منه منذ توليت رئاسة تحرير مجلة «عالم الكتب» عند تأسيسها سنة 1400ه، وحظيت بدعمه ومساندته، وكذلك بدعم شريكه في دار ثقيف الأستاذ عبدالرحمن المعمر، وهو المسؤول الإداري عن المجلة، ومن تلاميذ الشيخ عبدالعزيز الرفاعي أيضا. تصحر ثقافي هل ستعاني الأجيال القادمة من «تصحر ثقافي» في ظل ضعف وتراجع الإقبال على الكتب العلمية والتخصصية؟ أشعر أن هناك جيلا قادما سوف يهتم بالقراءة بلغات غير العربية، وبوسائل غير الكتاب، وهذا لا يعني نهاية الكتاب، أو انحسار الإقبال على «المنتج الورقي». ولكن الجيل الحديث له نمطه في القراءة عبر الأجهزة اللوحية والذكية وعبر الشبكة العنكبوتية؛ غير أن النقطة المهمة التي أود الإشارة إليها فيما يتعلق بحركة الكتابة والقراءة والانتشار هي قضية «التسويق» الذي أرى أنه بلغ الحضيض، في العالم العربي كله، وليس في المملكة فحسب. وقبل قرابة عشرين عاما درست حركة النشر في المملكة وكان التسويق هو العائق الأول ولايزال كذلك إلى يومنا هذا. فمثلا، من الممكن أن ينشر كتاب في الرياض لكنه لا يقرأ في جدة ولا يوزع فيها، ما يعني أن كثيرا من الكتب المطبوعة داخل المملكة لا تجدها في مدن أخرى غير التي صدرت فيها لأنها لا تصل إليها، والسبب يعود إلى التسويق، الذي لايزال ضعيفا، ويعمل وفق آليات قديمة، لا تواكب العصر، مثلما نشاهد في مكتبة أمازون وغيرها على سبيل المثال. ومن الصعب أن تجد وكيلا يوزع الكتب بشكل عادل، ومن ثم تجد نفسك أمام خيارين: إما المجازفة، وإما التوقف. وحتى قضايا التسويق داخل المكتبات لها ظروفها وشروطها، ولذلك فالتسويق هو أحد أبرز عوائق حركة الكتاب وانتشار القراءة. أما الإعلان وهو أحد وسائل التسويق فهو ضعيف جدا بالنسبة إلى إعلانات الكتب المتخصصة مقارنة بكتب الأدب والروايات، كما أننا نادرا ما نجد إعلانا عن صدور كتاب ما وعلام يحتوي. وفقا لخبرتكم الطويلة في رئاسة تحرير مجموعة من الدوريات العلمية والثقافية.. ما هو مستقبل المجلات العلمية في ظل تطور التقنية والمواقع الإلكترونية؟ قراءة هذه المجلات متراجعة، وعلى سبيل المثال، مجلة الفيصل العلمية بالرغم من أنها مجلة موجهة إلى القارئ العادي لتنمية الثقافة العلمية بين الناس - وهو المطلوب - إلا أن الإقبال عليها ضعيف، وهذا ما دفعنا في مركز الملك فيصل إلى اتخاذ قرار بإيقافها، لولا أن مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية سارعت إلى دعمها ماديا، فقمنا بتحويلها إلى مجلة إلكترونية مع طباعة 100 نسخة ورقية فقط. وهذا التراجع في القراءة لم تسلم منه دورية ثقافية. أما مجلة «عالم الكتب» و«عالم المخطوطات والنوادر» فنحن ندين بالفضل - بعد الله - لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة في استمرارهما ودعمهما ماديا بعد توقف الدعم الحكومي وتراجع الاشتراكات، بالإضافة إلى ارتفاع التكاليف. وأما قضية التحول الكامل إلى إصدار إلكتروني فقط فهذا يتطلب أن تكون في مستوى يليق بها من حيث عرض المحتوى والتصميم. وأما نحن فسوف نظل نصطدم بتراجع الإقبال ومحدودية العوائد المالية كنتيجة مباشرة لضعف أداء التسويق بشكل عام. مراكزنا البحثية لا تمارس دورها مثل الغرب سألنا الدكتور: هل لمراكزنا البحثية دور استراتيجي فاعل في صناعة القرار، على غرار النماذج العالمية؟ فأجاب: فكرة أن تقوم هذه المراكز بدور فاعل في صناعة القرار غير موجودة حاليا بشكل واقعي وفعال على مستوى العالم العربي بشكل عام. والدراسات والبحوث الصادرة عن هذه المراكز لا أعتقد أنها مفعلة كما هو الحال في الغرب. فمراكز الدراسات والبحوث في الغرب، أو ما يعرف ب «Think-Tanks»، هي مراكز مؤثرة جدا لدى صناع القرار في الغرب في كل السياقات، وجهات عديدة تعتمد على ناتج ما تقوم به من دراسات واستطلاعات. أما نحن فنستطيع القول بأن هذا الدور محدود جدا وقد لا يكون مؤثرا. ونقص الدعم المادي يعد أحد أبرز العقبات التي تقف أمام تطوير المراكز البحثية التي هي في حاجة إلى دعم الباحثين، والأدوات، والرحلات، وباقي المتطلبات. فالقدرات المادية ضعيفة جدا، والتغلب على هذه المعضلة يتطلب مشاركة جادة من الجهات المستفيدة لدعم إنتاج البحوث العلمية، وتطويرها، ووضع استراتيجية للتعاقدات مع عدد من الجهات التي من الممكن أن تستفيد من نتاج هذه المراكز. مستوى القراءة والاطلاع كيف ترى مستوى الإقبال على قراءة الكتب في المملكة؟ من خلال معرض الكتاب السنوي أرى إقبالا كبيرا على التزود بالكتب؛ بالإضافة إلى انتشار المكتبات التجارية، لذا أشعر بأن هناك إقبالاً على القراءة. ولكن حين تقيس هذا الإقبال إلى الكتب العلمية والتخصصية وكتب التراث تجده متراجعاً، وترى الإقبال عليها ضعيفاً. وبحكم عملي في عالم النشر من خلال (عالم الكتب) ومعرفتي بدار ثقيف، وكذلك من خلال مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وجدت عدد المتلقين قليلاً، بالرغم من قلة ما ينتج ويطبع في الأساس، وهو أمر مؤلم، لاسيما أن الباحثين والمتخصصين يعملون أحياناً سنوات حتى ينجزوا كتاباً واحداً من هذه الكتب العلمية المتخصصة، ولذلك قد تكون حركة القراءة أوسع في مجالات أخرى، مثل: الرواية والقصة والشعر والكتب التي يروج لها بأنها ممنوعة، وكذلك بعض الكتب ذات العناوين الجاذبة والخاوية من المضمون في آن واحد، مثل: (كيف تكون مليونيرا). هذا بالإضافة إلى الضعف الشديد في نسبة الكتب المترجمة الجيدة على مستوى العالم العربي.