عندما حاكم الأوروبيون جاليليو في القرن السادس عشر للميلاد، لقوله إن الأرض تدور حول الشمس، لم يكن يعتريهم أدنى شك في خطأ قوله وصواب إنكارهم عليه، ولو اعتراهم شيء من ذلك، لربما تراجعوا عن تكفيره وتقديمه للمحاكمة والحكم عليه بالموت، لكنهم لم يشعروا بشيء من ذلك على الإطلاق، بل كانوا مؤمنين تماما أن ما يقوله جاليليو مخالف لما جاء في كتبهم المقدسة كلية، وأن من يتجرأ على مخالفة ما تقوله الكتب المقدسة كافر كفرا صريحا يستحق عليه القتل، فكان أن قدموا جاليليو للمحاكمة وحكموا عليه بأن يقتل. الخطأ الكبير الذي وقع فيه الأوربيون آنذاك لم يكن حكم القتل نفسه قدر ما كان عدم قدرتهم على تبين الخطأ في موقفهم المنكر لما كان يقوله جاليليو!! هذه المشكلة ليست خاصة بأولئك الأوروبيين في ذلك الزمن البعيد، هي في واقع الأمر مشكلة عامة نقع فيها جميعا، فنحن نادرا ما نشعر بوقوعنا في الخطأ في فهمنا أو في قولنا أو فعلنا، ومن ثم نتشبث بالرأي الذي نراه. من عيوبنا البشرية، أننا لا ندرك قصور رؤيتنا ولا نرى ما فيها من خطأ، لكننا مع ذلك نبادر إلى إصدار الأحكام بالصواب أو الخطأ بناء عليها. ولأننا لا ندرك ما في رؤيتنا من قصور، فإنه لا يعترينا تردد أو شك في صحة ما تدلنا عليه، ومن المتوقع أننا حين لا نشك في صحة الرؤية لن نشك أيضا في صواب ما تمليه من الأحكام. حقا، إن عدم الإدراك للقصور في رؤيتنا هو أصل ثابت في تكويننا البشري، إلا أن ذلك يمكن التحكم فيه كما نتحكم في كثير من الغرائز، من خلال التدريب على التفكير التأملي، واعتياد شمولية النظر إلى جوانب كثيرة بعيدة أو غير ظاهرة. ومن المسلم به أن التفكير التأملي لا يوجد في فطرة الإنسان، وإنما هو من المهارات المكتسبة، التي يتعلمها الفرد بالمران والتدريب، وغالبا تصقل تلك المهارات بدراسة علوم؛ مثل المنطق والفلسفة والرياضيات، التي تحفز المتعلم على صياغة الافتراضات وطرح التساؤلات التأملية حولها والنظر إليها في إطار بعيد عما هو جاهز ومعد مسبقا في الذهن من الأحكام السابقة. أما إن غاب التدريب على ذلك، وظل الناس منحصرين في نطاق التفكير السطحي، فإن المتوقع أنهم سيظلون يكررون موقف الأوروبيين من جاليليو في أشكال وصور متعددة ومتنوعة، وسيأتي بعدهم قوم يسخرون منهم كما نسخر نحن الآن من قوم جاليليو!.