الشريط الأخير لليلة الأخيرة دائما مذاق مختلف! لم تكن واثقة تماما من مشاعرها. بدا الأمر ملتبسا للغاية. هذه اللحظة التي انتظرتها طويلا، جلبت معها حيرة لا تنتهي؛ هل ما زال شعورها صافيا، أم خالطته نقائضه؟ في محاولة لتبديد ارتباكها؛ رشت على عنقها قليلا من عطر جديد، وتابعت انعكاس رذاذه على المرآة. أعجبها هذا الصخب الذي أثاره العطر في غرفتها الساكنة، رشت المزيد حتى غام وجهها بين الرذاذ. كانت تشعر بألفة مع العطر الجديد، وهي التي لم تبدل يوما عطرها الذي اعتادته. كانت تؤمن أن للأنثى عطرا واحدا يشبه مزاجها الذي تتألق فيه، وما عداه غبش يحجب ملامحها. العطر حالة علوية تتجاوز الجسد لتعانق الروح، والروح لا تملك أن تعانق غريبا لا يشبهها. لكنها اليوم أمام لحظة مختلفة لا تشبه أيامها السابقة، أمام لحظتها الأسمى، ما جعلها تبحث عن حالة جديدة تلائم مزاجا لم تعهده. ولم يكن بمقدور شيء أن يفعل ذلك سوى عطر جديد، عطر لم تجهد في اختياره، أشارت فقط من بعيد لقنينة زهرية، أراد البائع أن يسكب قليلا منه على يدها كي تختبره، لكنها أخذته دون أن تشم رائحته. وضعته في حقيبتها على عجل كمن يخبئ مفاجأة سارة لنفسه. كان هذا ما تريده بالضبط؛ أن تحيط سريرها بغموض رائحة لا تعرفها، أن تواجه مصيرا لا تعبأ بالقلق منه. نظرت إلى ساعتها. كان لا يزال أمامها وقت كاف، فراحت تبذله في الاعتناء بالتفاصيل؛ أمام المرآة، مررت إصبعها على حواف شفتها العليا، وهي تضبط مسار أحمر الشفاه. أزاحت غرتها يمينا، لكنها انتبهت إلى أن هذا ما تفعله عادة، فأعادت إمالتها في الاتجاه الآخر. ثبتت قلادتها بحيث تنتهي عند فتحة صدر فستانها الأصفر الطويل. كانت مزهوة بفتنتها الطاغية، تحب لونها الخلاسي اللاهب، وقوامها الفارع النابت من عمق التراب الإفريقي. مغرمة هي باستداراتها وانحناءاتها. وكانت ممتنة لمرآتها القادرة على استدعاء كل هذا البذخ دفعة واحدة. أطالت النظر. هذه المرة لم تكن تنظر إلى نفسها، كانت تنظر إلى المرآة، إلى الكائن الذي يشاركها غرفتها الضيقة ذي النافذة الوحيدة، وعوارض السقف الخشبية. كان يستهويها دائما أن تنسج حوارا صامتا مع مرآتها. تنشغل بتأمل تجرد المرايا وهي تهب وجودها للآخرين. لا أحد ينظر في المرآة لذاتها، الكل يبحث عن ذاته فيها، عن صورته الصادقة. لكن هل هذا أقصى ما تستطيعه المرآة؟ ماذا لو كان بمقدورها أن تعري دواخلنا كما تفعل مع ملامحنا الظاهرة؟ أن تكشف ما نخبئه تحت جلودنا؟ ما نخبئه عن أنفسنا قبل الآخرين؟ هل سيستمر حينها تصالحنا المريح معها؟ أعجبتها الفكرة الأخيرة، لكنها لم تعرف إذا كانت ترغب في ذلك بالفعل. شارفت الساعة على الثامنة مساء، فحملت حقيبتها على عجل وهي تودع مرآتها بابتسامة ناعمة. كانت المسافة قريبة من بيتها إلى ميدان «مسكرم» حيث تتوقع مروره. عاد إليها ارتباكها وهي تغادر عزلتها إلى ضجيج الناس. لم يكن يخطر ببالها أن موعدهما الأول في أسمرا سيكون محفوفا بالشهود والعيون المتلصصة. لكنها بذلك كانت تفي بانقيادها التام للحظتها المختلفة؛ حيث يمضي كل شيء على غير اعتياد. اقتربت من الميدان، فازداد ضجيج الناس وقد ملأوا الجنبات. كان شاغلها أن تجد مكانا قريبا منه. تمنت لو تستطيع الوقوف في وسط الميدان، بحيث يمر أمامها تماما، يصطدم بها، يخترقها وهو يعبر طريقه الممتدة من مسكرم إلى آخر «سيتي بارك». زاحمت المصطفين حتى بلغت أقرب نقطة تستطيعها. خمنت أنه يستطيع رؤيتها بوضوح من مكانها هذا، بينما كانت قادرة دوما على رؤيته مهما بعدت المسافة بينهما. لم يتبق لها إذن إلا التعويل على عطرها الجديد كرسول غريب تبعث به إلى قوم لا يعرفونه، دون أن تفقد ثقتها في قدرته على هدايتهم جميعا. بلغ الحشد ذروته بحلول الثامنة والنصف، بينما أخذ الضجيج يخفت مع اقتراب لحظة قدوم الرجل. وحده وجيب قلبها كان يعلو ضاغطا على أنفاسها، وكأنه العد العكسي لما انتظرته طويلا. من بعيد ظهر الرجل الفارع أخيرا، ظهر رجلها. لم يكن وحده، بدا محاطا بثلة من حراسه وهم يجهدون في تتبع خطواته السريعة. حاولت الاقتراب أكثر، لكن جنديا وقف في وجهها بملامح صارمة، فاستكانت في مكانها. عاد الضجيج أقوى مع تلويحه للمصطفين في الميدان. مع اقترابه أكثر، غرست عينيها في مشيته، في قوامه الذي لطالما وقعت أسيرة اعتداده، في شاربه الكث. لمحت ابتسامته التي تعرفها جيدا، دون أن تدرك إن كانت لا تزال تحبها أم لا. بدأت ترى انعكاس الأضواء في عينيه اللامعتين. شعرت بقربه، بدقات قلبه المنتظمة تحفر في جوفها. كان يشق طريقه وهو يلوح بيده، يوزع نظراته على الجانبين دون أن يمنحها لأحد. وكانت لا ترى غيره. ذاب الناس في شخصه. تلاشى صخبهم واستحال همهمات بعيدة. لكنها لا تزال عاجزة عن القبض على حقيقة إحساسها. كانت تريده وحسب. تريد الرجل الذي انتظرته العمر كله، وقد اختار أن يأتي بطريقته الخاصة، لكن متأخرا جدا، في الليلة الأخيرة. ولليلة الأخيرة دائما مذاق مختلف. غفل الجندي قليلا مع المرور أمامها، فانسلت من أمامه، وركضت بأقصى طاقتها. لم يكن يفصلها عن رجلها سوى أمتار قليلة، لكنها أحست بها مشوارا لاينتهي. كانت تركض باتجاهه غير أن الزمن بدا متوقفا. كانت تنظر في عينيه تماما، كسهم لا يضيع هدفه. أرادت أن تصل إليه في أبهى زينتها، ألا تفقد شيئا مما أعدته لليلتها الأخيرة؛ فستانها الأصفر الطويل، حقيبة يدها، وقلادتها المنتظمة في نحرها. أرادت أن تصله مكتملة؛ بقوامها الممشوق، وأحمر شفاهها، والعطر الجديد، فلا يتخلف شيء منها عن لحظتها المنتظرة. التفت إليها، فالتقت العينان أخيرا. نظرتها اللاهثة عانقت صقيعا تعرفه في عينيه. مدت يدها لم تشأ أن تعبث في سر عظمته. مدت يدها كي تستأثر بلحظتها. لامست رقبته، فتغيرت نظرته، استحال صقيعها إلى لهب يتأجج. رأت لأول مرة نظرة مذعورة فشعرت بالزهو. تذكرت عطرها الجديد وهو يقابل في رجلها خوفا لم تعهده. أعجبها لقاء الغرباء هذا. أيقنت أن ما يحدث يليق بليلتها الأخيرة حتى وهي تتلقى سيلا من الطلقات. تواطأ الرصاص معها وهو يخترق صدرها بهدوء بحيث لم يصرف انتباهها عما جاءت من أجله. حاولت أن تتشبث بالرجل أكثر، غير أنها بدأت تفقد إحساسها بيدها. عاد الزمن للحركة فأفلتت رقبته. عادت الهمهمات من حولها. كانت تسقط دون أن ترفع عينيها عنه. سحبه حراسه بعيدا، غير أن الهلع كان لا يزال يستوطن عينيه. سقطت على الأرض، فارتبك هندامها؛ فقدت حقيبتها. وحده العطر الجديد ظل معها يظللها كغيمة حنونة. شعرت بالرضا، أراحها الذعر الذي أسكنته عينيه. أحست أنها بذلك أصبحت عصية على النسيان، سكنت ذاكرته، فابتسمت برضا، وأغمضت عينيها بهدوء.