في مجموعة قصصية لقاصين من منطقة تبوك أعد لها كل من الدكتور: موسى العبيدان، والأستاذ علي محمد آدم وقدمتها الدكتورة عائشة الحكمي، تضمنت هذه المجموعة نتاجًا للقصة القصيرة من إصدار النادي الأدبي بمنطقة تبوك للعام 1431 ه، التي هدفت إلى التعريف بعمل متجدد لأقلام واعدة تفاعلت مع المكان والزمان والإلهام الطبيعي، كل ذلك شكل خلفية مكان مفتوح يعكس حقيقة الانطباع الشخصي والنفسي والاجتماعي، أوجدت في غالبها تنوعًا في الطرح ومحاكاة للاتجاهات: التحليلية الواقعية الملامسة لسلبيات المجتمع ومشكلاته، والتعبيرية المفتوحة والمركزة على الإيحاء المحفز لمخيلة المتلقي الذي يبدو جليًا فيما سيقدم له من جديد القصة القصيرة في تبوك. وسنعرض في قراءة موجزة لبعض من محتوى هذه المجموعة ابتداءً بقصة «غمامة الخريف السوداء» للقاص إبراهيم الفندل العطوي، ففي قصته يستدعي أو يستبق القاص النهاية وما يشير إليها من خلال المقدمة، فهو يعطي صورة قاتمة للجو العام والمكان كمدخل في نصه التالي: «كانت الأشجار المتناثرة على جانبي الطريق العتيقة.. هجرتها الطيور بعد أن تساقطت أوراقها الشائكة، وقطعان من الإبل هائمة في الوديان بعد أن فرقها الجوع».. وفي محاكاة نفسية لإحدى الشخصيات العابرة في القصة لم يركز القاص على شخصية محورية، بل صب جل اهتمامه ب (الحدث) وإبرازه بشكل أكبر وفاعل، فالمعلمة «شموخ» كأنما توقعت النهاية منذ تحرك السيارة، وتبدى ذلك في قوله استثناءً «الكل بدأ يستعد للصعود إلا شموخًا». ويشهد المكان في شكله المغلق والمتمثل بالسيارة، التي تقل المعلمات إلى مدرستهن في منطقة نائية، يشهد حوارًا فيه تصوير للموقف أو بالأحرى سبب النهاية المأساوية لرحلة العودة، ويتضح مدى المعاناة من خلال صياغة مركزة للحوار بين شموخ، و«أمجاد» الزميلة، حين تعبر الأولى عن رغبتها الأكيدة بالنقل إلى إحدى مدارس المدينة بالسؤال: - هل تعتقدين إن نقلي ممكن؟ لتستبشر أمجاد خيرًا بقولها: - إن شاء الله سوف تنعمين بما تريدين. لكن شموخ تفجر وضعا متأزمًا عندما قالت: إنها المرة الرابعة التي أتقدم بطلب النقل، حتى بعد إرفاق شهادات الشكر والامتياز، وخاصة تقرير إعاقة زوجي. ولعل ذلك جعله القاص الأكثر إيلامًا، وبالتالي ليضع أكثر من علامة استفهام. أيضًا وليشير إلى انتقاد ضمني عبر مقارنة بين وضع شموخ التي لديها ما يبرر التعجيل بالموافقة لنقلها وبين زميلة لها عملت معهن لمدة عام ثم انتقلت بدون عذر إلى حيث أرادت، وهنا الصورة أكثر وضوحًا في تقريرية مباشرة. وأما النهاية المأساوية وإن كانت تستقرأ من السياق السردي كنهاية متوقعة إلا أن القاص أجاد في مقدمة ذات ارتباط بنهاية محتملة، وتسلسل الحوار المفضي إلى السبب الأقوى وهو (إعاقة الزوج)، والمفارقة في أن ذلك كله لم يشفع لنقلها بدلالة الموافقة على طلب آخر لزميلة، وكأنما أن الأمور تأخذ منحى عكسيًا. ويحسب للقاص الانتقائية الموفقة للمفردات في وضع المتلقي داخل الجو العام للقصة، خاصة في أسطرها الأخيرة بعد تدهور السيارة وقضاء من فيها، هذا ما تضمنته الأسطر الأخيرة تصويرًا معبرًا عن فداحة الموقف: «تتسع حدة التوتر وتشرئب الحناجر، وتعلو الضوضاء بعد انفجار العجلة الأمامية.. يختفي صوت المحرك ثم تنقطع جميع الأنفاس، يتجمد الدم في العروق، تسيطر قشعريرة ثلجية، فتزول السحابة الصفراء ليستقر التابوت الحديدي، وتتلاشى الأحلام الواعدة بعد تحليق هموم الخريف». وفي تجليات الزمان وقسوة المكان الذي لا حياة فيه تأخذنا القاصة فوزه مسبل العنزي في قصتها «الفاكس» إلى الأثر الانطباعي تحليلًا لمقولة إن «الفرصة لا تأتي دائما»، فهذه «ندى» في وحدتها الاختيارية بعد وفاة الوالدين وتفرق الإخوان، والذين كان يعج بهم المنزل حركة وضجيجًا، وهذا ما أشارت إليه ضمنًا عند وصف البيت بالكبير عطفًا على أنه صمم أساسًا ليتناسب مع عدد ساكنيه. وتوفق القاصة في إظهار لمسة الحزن والشعور بالوحدة لدى «ندى» رغم ما وصلت إليه من درجة علمية مرموقة وباحثة نشطة في حقوق المرأة، وإعلامية مطلوبة في الندوات والمقابلات المرئية، ويتفجر مكنونها في لحظة بوح إحساسا بالوحدة في قولها مخاطبة من كانوا بالأمس بالمنزل يبعثون فيه الحيوية، ولا وجود لهم الآن، مستحضرة أرواحهم لتسائلهم قائلة: «أين انتم؟ أين انتم؟ لماذا أنا وحدي؟». وبطبيعة الحال لا جواب. وتلمح القاصة إلى أن الاتصاف بالجمال والبحث عنه هو أولوية أنثوية وسمة غريزية خاصة بها كأنثى، إذ إنه وبرغم اهتمامات «ندى» العلمية ومشاغلها الحقوقية عن المرأة وتحديدًا فيما يراه البعض من استسهال للتعدد، وقناعتها الشخصية بأن هناك إجحافًا بحق المرأة من خلال سلبيات مرصودة هنا وهناك لحالات تعدد غير عادلة، ولا تتفق مع الضوابط الشرعية المنظمة لهذا الجانب. رغم كل ذلك فهي لم تنس عملية التجميل كما جاء في النص «نعم أبدو جميلة، وهي تراقب مفعول البوتكس حول عينيها». وببراعة تقف القاصة على الدافع له وعلى لسان «ندى» وهي تقول: «ما زالت ملامحي شابة» ولا شك أن في هذا تأكيد بكون مرحلة الشباب هي الامتع والأرسخ في مسيرة الإنسان، خاصة المرأة باعتبار أن الجمال والشباب يشكلان قواما أنثويا ملحًا. وتختزل القاصة مجريات الحدث المفصل، أو التصعيد العقدي في النصف ساعة التي شهدت المقابلة المرئية، التي تشكلت من مقدمة للبرنامج متحمسة لحقوق المرأة وترى في التعدد مشكلة لا حلا، ومشاركا آخر يرى العكس ويتمشى مع الواقع، والمتطلب الفعلي. وفي مفارقة لافتة وبعد سؤالها كمشاركة في البرنامج تعطي «ندى» رأيها قائلة: «التعدد حل وليس مشكلة» وهي الضالعة بحقوق المرأة وعكس ما كان متوقعا منها تماما. وبذلك لامست القاصة الواقع المعاش بالنسبة ل «ندى» وأن القناعات الظاهرة أحيانا قد تكون سطحية وتقع تحت تأثير التنظير المحض باستباق وتوقع الضرر قبل النفع، في مجاراة لتيار سائد لا يرى من الكأس إلا نصفه الفارغ، وفي إقرار أن التنظير شيء وأن الواقع شيء آخر يفرض نفسه في النهاية، وهذا يقودنا إلى تجلي حالة ندى وتجربتها المريرة وإسقاطها على أكثر من حالة، والتي ما كانت لو أنها فكرت بموضوعية من البداية، ولم تجعل من نفسها أسيرة طموح علمي جامح ومفهوم سيئ عن التعدد. وتحمل القصة في طابعها رسالة غير مباشرة بأهمية التوازن بين المعطيالت الحياتية وألا يطغى احدها على حساب الآخر، وأن ما نرفضه قد نتوق اليه لاحقا، تجلى ذلك في قدرة القاصة لتصوير الموقف عبر وصول الفاكس إلى ندى أثناء الندوة لتقرأه لاحقا وتعرف انه ممن أحببها في يوم ما وأراد الارتباط بها، لكنها رفضت رغم محاولاته الثلاث، مفضلة الجانب العلمي على الجانب الاجتماعي، مما حدا به للزواج من أخرى تحت ضغوط عائلية، ولم تأخذ بجدية ان الحكم العقلاني على الأمور، وتحكيم العقل لا العاطفة، هو ضرورة منطقية لحياة سعيدة وكريمة، وان نشوة التفوق والنجاح الوقتي لا تعادل استقرارا وطمأنينة دائمين. وباقتدار تصور القاصة لحظات حوار ذاتي يعاود فيه الأمل ندى بعد اطلاعها على النصف الأول من مضمون الفاكس وكالتالي: «أيكون هو ما زال يهتم بي؟.. نعم هو، بكت ندى ولم تعرف لماذا تأتي الدموع الآن وكل شيء تغير، ها هو قادم لينتشلها من وحدتها». ولكن النصف الآخر من الفاكس حمل العبارات التالية: «أنت رائعة ولا مجال للحزن.. أخيرا تحياتي وأمنياتي لك بالتوفيق» وليكسر بذلك توقعاتها المأمولة بتجدد الطلب ولتتساقط آخر أوراق الأمل لطلب مرتقب. هذا ما صاغته القاصة لنهاية صادمة بقولها ختاما «انتهى الفاكس وجفت الابتسامة، قلبت ندى الفاكس بين يديها وقد اكتملت خيبة الأمل في نفسها فقالت وهي تذرف الدموع:»أهذا كل شيء؟». أما في قصة «القرار» للقاصة العنود سليمان البلوى فهناك رمزية تشكلت في إحلال الظلام والشمس والبياض للتعبير عن الخير والشر وفي سياق فلسفي يشي بقوة المفردة المعبرة عن كوامن الذات، والقناعات المؤدية إلى القرار الصائب وتحكيم العقل، وعدم الإذعان لوقع تجربة قاسية مرتين، لمن حاد عن الصواب وعاد إلى رشده تحت وقع المسؤولية وتأنيب الضمير، حتى وان كان في ذلك انفصاله عمن أحب. والقصة وان كانت ضمن الاتجاه الواقعي التحليلي الذي يعرض لسلبيات المجتمع ومشكلاته، إلا أن استهلالها بدأ تجريديا كالتالي: «ابتسم الظلام للشمس.. خدعها حتى تغيب، ذهبت مطمئنة وهجم بيديه على المدينة.. وفي عينيه ضحكة خبيثة»؛ أي انه في لحظة ضعف تغلب الجانب الشرير عبر المغريات بالسعادة الموعودة على الجانب الخير، وهذا يعطي الفعل (ابتسم) الدلالة على أن التفكير انصب على آمال زائفة مقابل العمل غير المشروع الذي تورط فيه زوج وأب لطفلين، وفي تأكيد على معاناته الكبيرة أتت جملة «فقط هو كان يعلم» بمعنى إن من يمر بتجربة ما هو الأعلم بوقعها سلبا أم إيجابا أكثر من آخر يسمع عنها فقط. وفي استطراد للمشاعر الإنسانية تمثلت في الأبوة التي مثلت لدى القاصة الغريزة الأقوى تأثيرا في عودة الأب الضال إلى بيته وعائلته، يأتي ذلك في النص الآتي: «اتجه إلى بيته، الطريق يتمدد ويتلوى كأفعى سامة.. وصل، داعب انفه عطره الدافئ ورائحة ولديه افترسته حتى الرمق الأخير، شغف قلبه ويتوق إلى أن يقبل وجناتهم.. اتسع قلبه حتى احتضنهم جميعا». وفي خضم فرحة اللقاء تظهر الزوجة وكأنما هي خارج الاحتفالية، بل بتساؤل يطغى فيه الجانب المادي على الجانب الإنساني، عندما تسأل: - ماذا أحضرت -ويجيبها إشارة إلى جيبيه الفارغين، وكمن يقول ها أنذا افرحوا بي أولا!! وقد برعت الأسطر التالية في تصوير اللقاء وموقف الزوجة الخاذل لتوقعات الزوج العائد: «سبع سنوات وهو يحلم بهم.. سبع سنوات وهو يداعب أطيافهم.. سبع سنوات وهو يبكيهم.. وفي الخلف رآها عاقدة يديها وهي تنظر بصمت وانتظار.. حاول الخروج.. لكن الطريق اختفى.. الطريق الملعون هرب.. وتركه يواجه مصيره». ويبدو واضحا تصوير الموقف بعدم تفهم الزوجة لمعنى التسامح، بل استفزازه وهو الذي لتوه استشعر الفرح بحريته والتمام شمله بمن أحب بعد الإفراج عنه. وفي حوار يتضح فيه مدى معاناته لإقناعها إنهم عائلته وانه يحبهم جميعا عندما يقول: - سبع سنوات عشت كل ساعة.. ودقيقة.. وثانية أفكر فيكم جميعا. فترد عليه باستهزاء بالغ: - واضح جدا. فيصرخ: - إنهم أولادي وأنت زوجتي. ترد بسخرية: - الآن عرفت! يصيح بأعلى صوته: - لقد تغيرت، قديما كان جيبي ملوثا بالنقود القذرة كأحجار عفنة كنت أعود بها، الآن انظري إنها نقية وامضة. لكنها تهز رأسها بملل. ومن سياق القصة يتبين حسمه أمره بالتوبة الصادقة قانعا بالقليل، وهذا ما لم يرض زوجته والتي لم تكن واقعية في تعاملها بعد الانتظار الطويل، وتوحي القصة بأنها اعتادت على غنى محرم قبل السبع السنوات وعندما كان هو يتاجر بالسموم، وكأنما العقاب الذي تلقاه ومستقبل الأبناء ذلك كله لا يهم، بل الأهم العودة إلى رغد مزيف. وفي أسطرها الأخيرة تجلى الإبداع في نهاية توافق المعطى العام للقصة فكان الختام: «البياض يرتديه.. يشع من جبينه.. من عينيه الوديعتين، الدفء سكن صدره.. ربما لذلك كان الولدان لا يفارقانه؛ ابتسم وهم يتسابقون على يديه، ورآها ترمقه بنظراتها الساخرة، لم يعد الظلام يحاصره فبياضه يجعل الظلام يفكر ألف مرة، رآها واقفة وعند قدميها حقيبتان كبيرتان.. تماسك ومسح دمعة انسابت من عينيه.. انحنى كي يحضن الأولاد، وأدار ظهره لها إلى الأبد احتضنهم أكثر.. وهو يهمس: أحبكم.. سأجعلكم فخورين بي يوما ما، ولن اخلع البياض». (*) عضو نادي تبوك الأدبي