1 لم يسبق لصوته أن كان باردا هكذا، في قلبه تفيق عتمة لم يعهدها، أم أنه لم يعبأ بها يوما، ذات الصوت الذي أخبرته أمه يومها أنه يحتضن دفء العالم بأكمله، كلماته التي عهدها شعرا لم يطرق كي يتغنى به، هو الآن يكاد ينكر نفسه مذ ألقي في زنزانته يصارع الوحدة، يعتصر وجهه ويشده بيديه كي يتأكد من أن المطل من كهف المرايا الوهمية هو نفسه من علمته أمه أغاني الست وشادية، يشعر بقبضة من رخام تعتصر قلبه كلما حاول أن ينطق اسما يعلق بذاكرته، لتخرج الكلمات كما لم يعهدها من قبل، حاملة صقيع عالم لا يعرفه، أو هو ينكره كما أنكر ذاته قبل قليل، وصوت يأتيه من العدم يسأله: ايش اسمك؟ 2 أفاقت من حلم مزعج ينذرها أن الأشياء قد تصير إلى ما لا تأمل، هي تؤمن بالأحلام كثيرا مذ أخبرتها عجوز القرية عن تفسير حلمها القديم مراهقة ترفل بالطين العالق بعباءتها، وحلم عن مصباح ونار ومشكاة، مشكاتها التي انتزعتها من يتمها لتلقي بها في أحضان السعادة ابدأ لا تعتقد يوما بانتهائه حين تزوجها صالح، هي المصباح، وحملها نارها التي تشعرها بأنها تحمل كنزا في داخلها.. 3 ايش اسمك؟ الصوت من العدم يصر على أن يهشم كل السكون الذي يحتاجه كي يهدأ، كي يلملم ما تبقى منه على الأقل في هذه العتمة اللا متناهية، كيف أتيت إلى هنا؟، وما الخطأ الذي ارتكبته كي أغرق في كل هذا التيه؟ يعتصر ذاته، هو يشعر بالرغبة في تقيؤ كل ما يعرفه عن نفسه دفعة واحدة، يحتاج أن يهدأ، يصر على ذلك، وأصوات الخطوات في الخارج تزيد من حدة توتره كما لم يعهد من قبل، يفكر في ملاذه الآمن، موطنه المنفي، مدرسته وألعابه، يبتسم ببلاهة داخله، والأصوات في الخارج تزداد حدة، والسائل يصر على سؤاله: ايش اسمك؟ 4 الهواتف المغلقة دائما ما تثير حفيظة الأمهات، مرت سبع ساعات وهي تحاول الوصول إليه دون جدوى، عساه بخير، تطمئن ذاتها وفي قلبها غصة لم تعتدها من قبل، وأصوات تصر على أنه ليس بخير هذه المرة، تذكر نفسها باللحظة التي انتزعها صراخه من صراعها أول مرة، كيف انحنت الجدران لتقبل مولودا من نور، تبتسم، وللمرة الأولى اليوم يراها صالح مبتسمة!، يعاودها التوجس فتعاود ذكراها، تذكر جيدا كل الأغاني التي علقتها على قلبه تعاويذ حب، وتمائم أمومة، كانوا يسخرون منها ومن صوتها الذي يصفونه بالنشاز، وهو كلما أتى لزيارتهم من الجامعة يتلطف: يمه غنيلي، تذكر آخر أغانيها جيدا، شادية، تترنم وابتسامة صالح تزداد اتساعا بحجم الشمس التي أرسلت لها مراسيلها بأن «ما تحماش»! 5 كيف يمكنني أن أنتزع كل هذا الجليد الذي يغلف صوتي؟، صراخي يهوي في عمق لا أكاد أطيقه، والموت حرفيا يأتيني من كل مكان الساعة، لم انتزعت أغانيها من قلبي؟، لم يكن صوتي بحق ذا دفء يوما، كنت أمتد دفئا من أغانيها المعلقات على جدران قلبي، تحفظه من كل بؤس قد يصيبه، والآن ها أنا ذا لا أطيق أن أنطق اسما لطالما تغنت هي بجماله مذ صارعت أبي عليه وصرخت يوم ولدت «يحيى»، أحتاج أن أصغي أكثر كي أستمع لغنائها عابرا كل شيء ليصل إلي، هم أوهمونا أنا قد نجد الخلد إن نحن أتينا إلى هنا لنصارع الباطل، وما وجدنا إلا الموت مفزعا يحتل كل الأشياء، أنا من مزقت كل تمائمها ورحلت دون حتى أن أحمل الريح وداعا وأغنية! 6 إيش اسمك؟ متحاملا على ذاتها وضجته حاول أن يهدأ مذ هدأت ضجة الأصوات من حوله، إلا من سؤال معاد، وصمت منذر بالموت يتبعه، موقنا أن الموقف لم يعد يحتمل أن يصمت أكثر، يجب عليه أن يخبرهم قبل أن يسوء الوضع، كان قد تناهى إلى مسمعه صوت تحطم وغناء قبل أن يهدأ المكان ويعيد السائل سؤاله، شيء عن الشمس باغته وأفزعه ونبش ذكرياته، السائل يصرخ هذه المرة وقد تملكه الغضب، منددا بكل شيء، يشعر باقتراب الصوت أكثر فأكثر، مندفعا بفزع لا يعرف كنهه نهض، والعتمة تصر على تغليف عينيه وكل حواسه، يقبض بيديه على جسد كاد يفلته مع إحساسه بكم البرد الذي يسكنه، انتفضت كل غرائزه لصوت خمن أنه لمسدس يجهز لجرم لا يد له به، صاح بكل خلاياه التي غلفها الجليد، اسمه: يحيى.. يحيى صالح!