بدأت متشوقا لقراءة كتاب شيخنا محمد العبودي (سبعون عاما في الوظيفة الحكومية) 4 أجزاء الصادر حديثا من دار الثلوثية بالرياض 1436ه (2015م)، ورغم أنني عاصرت شيئا مما يذكره قبل نصف قرن، إلا أنني بهرت بما وصفه العبودي بدقة متناهية، ونقل لنا بالتفصيل غير الممل لأحداث ومواقف في الداخل والخارج سوف أعود لها بمناسبة أخرى ولكن الجيل الجديد وما بعده سيراها شيئا آخر لا يصدق، وكأنه يصف من عاش في كوكب آخر. والعبودي، كغيره، لم يبدأ بتدوين هذه اليوميات أو الذكريات إلا بسبب تسلمه لأول مرة مرتبا شهريا قدره ستة ريالات فرنسية من الشيخ عبدالله بن حميد عام 1363ه، وهو في الثامنة عشرة من عمره، وبعد بضع سنوات رافق الشيخ ابن حميد إلى الرياض لمقابلة الملك عبدالعزيز رحمهما الله فبدأ يكتب ما يشاهده من مظاهر لم يألفها، فعلم بذلك الشيخ فشجعه بل وحثه على ذلك، وجاء بعده بسنوات الشيخ عبدالعزيز بن باز عندما كانا يعملان في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والذي لم يكتف بتشجيعه، بل طلب منه أن يحضر له ما كتبه عن مشروع المعجم الجغرافي، عندما دعاه إلى بيته بالمدينة على الغداء قال له: أين كتابك (معجم بلاد القصيم)، فأجابه: «.. هو موجود، ولكنه لم يكتمل ترتيبه وصفه، فقال: أرني إياه فأحضرته في حقيبة من الحديد، فصار يقلبه، ويقول: سيكون لهذا شأن..». فعلق العبودي قائلا بعد ذلك.. وقد صار له شأن ولله الحمد، فطبع الأستاذ حمد الجاسر طبعته الأولى عشرة آلاف نسخة، وبعد ذلك انتهت صلاحية حمد الجاسر فطبعته طبعة بطريقة التصوير مرتين، وكذا بدأ شيخنا العبودي يكتب التاريخ الحقيقي أو ما أهمله التاريخ، فالبعض يعتقد ألا أهمية لما يكتبه، ولكنه مهم لمن سيأتي بعدنا. كنت وقت قراءتي أفكر فيمن كتب مثله، وجاء سريعا ذكر ثلاثة سأمر عليهم سريعا، وأولهم رفاعة رافع الطهطاوي من مصر، والثاني أستاذنا عبدالكريم الجهيمان، والثالث الوزير عبدالعزيز الخويطر – رحمهم الله. 1 رفاعة الطهطاوي (1801 1873م) سافرت البعثة الطلابية الأولى من مصر إلى باريس عام 1242ه (1826م)، ويصف رفاعة الرحلة في كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، والذي سجل به صورا من حياته في مدينة النور، ورسم أمام أعيننا لوحات حية عن الحياة الاجتماعية في فرنسا في القرن التاسع عشر. وقد رسم في كتابه صورا لباريس في جدها وهزلها، وعملها ولهوها، وصف لنا المسرح الفرنسي وما يدور على خشبته من تمثيليات... إلخ. وكان شيخ الأزهر وقتها حسن العطار قد اختاره عام 1240ه (1824م) إماما وواعظا في الجيش، ثم طلب محمد علي باشا من الشيخ العطار أن ينتخب من علماء الأزهر إماما للبعثة يرى فيه الأهلية واللياقة، فاختار الشيخ رفاعة لتلك المهمة، وأوصاه بتسجيل كل ما يشاهده في طريقه وما يراه في فرنسا يستحق الكتابة ليستفاد منه عند عودته.. وهكذا ألف وترجم وعاد ليصبح رائدا تنويريا يشار له بالبنان. 2 ونلاحظ تجربة معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر التي بدأها من عام 1426ه (2005م) في كتابه (وسم على أديم الزمن.. لمحات من الذكريات)، والذي صدر منه قرابة 30 جزءا، وكان سيستمر في تسجيل يومياته أو ذكريات كما سجلها في مفكرة لا تفارقه كما يقول. وقد ذكر في مقدمة الجزء الأول تحت عنوان: سبب كتابة المذكرات: أنه كان يتمنى لو سجل والده سيرة حياته وذكر فيها ما يعرفه عن آبائه وأجداده.. فلمس لهم العذر لمشاغلهم في طلب المعيشة؛ لهذا حرص على أن يدون ما يمكنه تدوينه ليعرف أبناؤه عما يودون معرفته بالتفصيل فيما بعد. وقال: «دونت سيرة حياتي بتفصيل سوف يتقبله أبنائي، وقد تركت للقلم حرية الحديث فيه، فجرى القول رهوا، وريحه رخاء، وقد وصلت حتى الآن إلى عام 1410ه وزاحمت كتبي وعملي هذه المذكرات، فأرجأت الباقي إلى حين يتسع وقتي لهذا، إذا مد الله بالعمر..». وبعد إلحاح بعض الإخوان عليه في إخراجها، وقد أقنعوه بأن هذه تؤرخ لجانب من حياتنا في حقبة لم تعد معروفة للشباب اليوم، فقد تفيد مادة للمقارنة في المستقبل. وقال إنه قد تجنب التلطف كما يفعل البعض ويعمدون إلى طلاء حياتهم بطلاء زاه، ويزخرفونها بزخرف حبروه وهم جلوس في مكاتبهم.. إلى أن قال: «سوف أحاول في هذه المذكرات، ما أسعفتني أوراقي ودفاتري، ما لدي من وثائق، وما أسعفتني به الذاكرة، أن أكون أمينا فيما أكتب، صادقا فيما أنقل، واضحا فيما أصور؛ لأن الحقيقة جميلة.. سيرى أبنائي وأحبابي ومن تهمهم الحقيقة رجلا على حقيقته، وسيعرفون الأسباب التي أوصلته إلى ما وصل إليه..». وقال: «أما النهج في كتابة هذه المذكرات، فسأحاول أن أسير فيما أكتب حسب التسلسل الزمني، إلا ما قد أغفل عنه في مكانه.. وسوف أعتمد فيما أكتب على الذاكرة، خصوصا في مرحلة الصغر.. أما ما أتى وافيا، مقارنة بما مر، فهو ما سبق أن دونته في وقته، وبطل هذا والأمين عليه والحافظ له، بعد الله (مفكرات الجيب) التي منذ بدأتها لم أتركها، وسوف يكشف ما فيها أهميتها، وما تأتي به من توثيق. وقد بدأت مفكرات الجيب في مرحلة دراستي الجامعية في مصر..». وقال إنه شحنها من مصر مع كتبه فتعرض بعضها للفقد. أما بعد سفره للدراسة العليا في انجلترا، فقد بقيت في حرز مكين؛ لأنه أحضرها معه عند عودته بعد حصوله على الدكتوراه عام 1380ه (1960م). 3 أما أستاذنا عبدالكريم الجهيمان، فقد بدأ يسجل ذكرياته ومشاهداته عندما سافر مع الأمير يزيد بن عبدالله بن عبدالرحمن مطوع عام 1371ه (1952م) إلى باريس وبقيا بها قرابة ثمانية أشهر، فجمع ما كتبه تحت اسم (ذكريات باريس)، وأطلع عليه المذيع والصحفي العراقي الشهير وقتها يونس بحري، فنشر ما أعجبه في جريدته (العرب) التي كان يصدرها بباريس في 3 المحرم 1372ه، ولم ينشر الجهيمان كتابه هذا إلا بعد نحو ثلاثة عقود، إذ نشره النادي الأدبي بالرياض عام 1400ه (1980م). كما ألف كتابا ثانيا سماه (دورة مع الشمس)، وهو عبارة عن مشاهداته في رحلة طويلة بدأها من لندن إلى أمريكا فطوكيو فالصين فجزر الهنج كنج فالبحرين، بعد أن نشرها تباعا في صحيفة الجزيرة، ابتداء من 25 المحرم إلى 25 ربيع الآخر من عام 1397ه، نشرها بعد ذلك عن طريق جمعية الثقافة والفنون عام 1400ه، وقال في مقدمتها: «.. وقد حرصت على أن أسجل في هذه الرحلة ما أراه مفيدا للقارئ من عادات حميدة، أو اختراعات مفيدة، أو مظاهر غريبة تدعو إلى العجب..». سأعود لكتاب شيخنا العبودي مرة ومرات، إذ به كثير مما يستحق الإشارة والإشارة، وبالله التوفيق.