عندما ترزح الكلمة والمفردة تحت المعنى والوجود، تحت تجربة أكبر من أن تحملها المفردة، وثقافة أوسع من حدود القافية الشعرية، عندما يأتي الشعر أكبر من رقصة النظم والإيقاع المشروطة بالتصفيق، وعندما يكون المضمون يرتب حدود الانطولوجيا والمعنى، وعندما يكون الوجود بمقاييسه المثالية خارج التجربة الشعرية عندها يكون الشعر متجاوزاً أطر النحو واللغة وكاسراً حدود المنهج. عندها تحظر التجربة الشعرية عند عبدالله السفر في ديوانه جنازة الغريب نصه «يخلون سرير محبتهم» تجربة ظاهراتية وجودية بكل التباساتها وخفاياها بدمعتها بيأسها بعدميتها، بيأس الكائن وضعفه، وإحساسه بتجربته الخاوية «كرسالة لم يحملها، ويتلبسه الليل الذي لا يحسن مدافعته». عندما يتجاوز الشعر أرجوزة النظم ويُظهر خبرة وثقافة الشاعر وسعة إطلاعه ويُظهر فلسفته بأن الوجود بالنسبة له ليس محاكياً للاسم لأن الاسماء ليست إلا معاني اصطلاحية، بل الوجود محاك للفعل والواقع ويا لقسوة الواقع؟ الشعر في تجربة السفر يفصح عن فلسفة الشاعر واتجاهاته بأن الوجود ليس اختياراً حراً كما يرى بعض الوجوديين كسارتر وككيركجارد: دفع بدمعته الرسول وهام طي رسالة لم يحملها أخذ بالتهدج، ناله يأس الكائن فراغ الأمل من صاحبه، نفاذ السكين عري الوردة من شوكتها وليس هناك طريقة امبريقية لبرهنة أن الكائنات البشرية ليست حرة أصدق من أن تتعرى تلك الوردة الجميلة من شوكتها، ويا لها من خديعة مرة أن تكون محملا بالعديد من الأسلحة وتعيش الأمل الكاذب. ويا له من خيار صعب عندما تعتقد أن الوجود توجه نحو المستقبل ولا تجد من حولك إلا مذعورين لا يفقهون ما تقول، ويا للفجيعة عندما تعتقد أن الوجود كتوجه نحو المستقبل ولا تجد إلا مراكب مخلوعة بأشرعة مشقوقة، ليتك عشت اللحظة ليتك « وليتهم لم يخلوا سرير محبتهم». حين الأصدقاء بمناكب مذعورين يخلون سرير محبتهم ويتهافتون إلى مراكب مخلعة مشقوقة الأشرعة يعرفون أنها ليست مأوى في اليابسة ولا تصمد لماء يغادرون فحسب. أي صورة حسية يجسدها السفر في الاحساس بالألم متجاوزاً بلادة القافية عندما يقول: طاشت سهام خفية لا ترحم سمها ضار يبدد الروحَ ينثر الجمر في اللحم وأي صورة يرسلها الينا عبدالله السفر في تصويره للمثقلين بالحياة، كطائر فركت أجنحته يثقل، يحط ثم يزفر ويفرفر،،، ثم يرتب مشهد النهايات المفجعة «بظهور تراصّتْ بططتها القسوة»، مجرد أرقام بددتها قسوة الحياة رغم رمزية الصورة في صلابة الظهور المتراصة. ويستمر في تصوير النهايات المفجعة تلك الصخرة الجائرة المتدحرجة، التي لم تشتم إلا الدمع لتلحق الأذى بالمحزونين وكأن لم يكن لها خيط أثر آخر، لتؤكد لنا أن طوباوية المشهد وانتصار الخير ليس إلا مشهدا في الافلام السينمائية. ليس كذلك فحسب بل هو مشهد يتفنن في إرساء الموت والألم، لا يجعلك تلفظ أنفاسك دون أن تذوق مرارة الاحباط واليأس ودون أن تشعر بالعجز في مواجهة تلك المشاعر وأنت في «الهاوية التي موهتها الخديعة»، لا يذيقك الموت الرحيم، كيف لا وهي الصخرة بمشاعرها، والعدوانية في سلوكها فهي من «نهضت من أول الليل تفحص وليمتها» أي عدو ذلك المتربص العدواني المتابع لكل التفاصيل، ليتها رصاصة الموت لكنها الصخرة المطبقة على فوهة الكهف لتطيل العذاب والألم وتعلق المشانق بدلا من رصاصة الرحمة لأنها تعرف أن الرصاصة التي تقتلك لن تؤلمك. عندما يتجاوز الشعر سخافة القافية ويظهر ذلك القلق الوجودي كمحددات أنطلوجية تخلخل مشاعرنا الزائفة بالإحساس بالأمن، ومن الاستغراق في السكون المألوف الخادع بأن النهايات السيئة لا تكون إلا للأشرار فقط. يخبرنا عبدالله السفر في النص بطريقة مرادفة لما قاله كييركجارد بأن «من يكون قلقا على النحو الصحيح فقد تعلم الذروة»، وذلك حينما يصدمنا بأن الكهف تربص بذلك المسكين الذي لم يترك أثراً ولا حلما. وفي اللحظة الفاجرة انتهى المشهد الى كل الخسارات الى جنازة غريب لم يكن لها ذلك الحضور سوى التلويحة العابرة.