تعرفت بالصدفة على أعمال خوان رولفو الفوتوغرافية سنة 2009 بمعرض إقامة معهد سيرفانتس بالرباط، كنت أعتقد كما أغلب القراء أن رولفو صاحب الرواية البديعة «بيدرو بارامو» يكتب الرواية والقصة فقط ولا علاقة له بالتصوير الفوتوغرافي، لكن اكتشافي المبهر عرفني عن قرب بولعه الراقي بالفوتوغرافيا، وقد ساعدني هذا الاكتشاف على تفسير سبب تقشفه في الكتابة السردية. الفوتوغرافيون يحبون الصمت والتكثيف وقد كان خوان رولفو من هؤلاء المحبين للصورة والإيحاء البصري. فيما بعد اهتممت بالجانب الفني لروائي الأمريكي اللاتيني المفضل، فوجدت أنه ترك أكثر من 6000 صورة فوتوغرافية. يحب رولفو الأماكن المنعزلة، والنساء في حالة الحداد، والطبيعة القاسية، والوجوه المعذبة.. عالم صوره الفوتوغرافية يعرفه رولفو جيدا لأنه يلتقط مشاهد عن شعبه، الشعب المكسيكي وطبيعته القاسية، فقد طوال حياته يعيش بعمق وانفعال في هذه الصور التي التقطها، نرى ثقل الزمن كله، صور الأطلال تذكرنا بالماضي، زمن معلق، إلى أجل غير مسمى. تنضح أعماله الفوتوغرافية بأشكال متعددة من النسيان، والصفاء والصمت، صورة كلها بالأبيض والأسود يتجلى منها ضوء خاص ضوء جدا، يعكس بحفاوة حدادية عوالمه الأدبية وفي مقدمتها روايته «بيدرو برامو» الشهيرة، بحثت عن مدينة كومالا فوجدتها في كل مكان من صوره. بحثت عن أصداء الأسلاف فوجدتها في الأرض واليباب والسماء. بدأ خوان رولفو التصوير منذ بداية الثلاثينيات متنقلا بين القرى المكسيكية، مستكشفا الجغرافيا والأنثروبولوجيا وتاريخ المكسيك، الصور التي التقطها تعكس شغفه بالمناظر الطبيعية المكسيكية والثقافات المحلية والعمارة المكسيكية. يتحدث كارلوس فوينتس عن صوره قائلا: «يبدو أن صور خوان رولفو تصور الصحاري والأراضي الحجرية، والجدران العارية، بشفافية سائلة وعذبة، كما لو كانت صورا مائية، وكأن رولفو انبثق من خارج قبور كومالا ليكتشف الظلال الساطعة». تستدعي صوره الكثير من التأمل والاحتمالات فهي تعالج عالما إيقونيا بطريقة سردية كثيفة تتجنب قدر الإمكان الوصف والتفسير، قد يهيمن عليها الجانب السيرذاتي، فيغلب عليها التضخيم والتكرار الموضوعاتي، الذي لا يعيب تجربته الفنية بل ساهم في ازدهاء وعيه البصري المزدوج بين الرغبة في سيطرة على الكتابة العسيرة وإغراء الصورة المكملة والمحققة لإشباع روحي لفنان متقشف في الإبداع لا يستسهل الكتابة ولا ينقاد وراء وهم تحقيق تراكم كمي. ولد خوان رولفو عام 1917 في منطقة من أفقر مناطق ساحل المحيط الهادئ في المكسيك، تدعى خاليسكو، وتوفي بميكسيكو في الثامن يوليو عام 1986. كانت طفولته مأساوية إثر اغتيال أمه ووالده وأعمامه، خلال (ثورة كريستيرو). هذا الحادث المؤلم ترسب في وجدانه وشكل النواة الجنينية لمعظم أعماله السردية والفنية. عرف عن رولفو تضامنه مع الفلاحين والمهمشين في القرى المكسيكية، ولم يقتصر الاهتمام بالجانب الإنساني والاجتماعي بل أصبحوا موضوع قصصه وصوره، نال جائزة الأدب الوطنية في المكسيك عام 1970 وجائزة سرفانتس بأسبانيا عام 1985، حاز شهرة عالمية بفضل روايته الفريدة والوحيدة «بيدرو برامو» التي استلهمها من التمرد والعنف، الذي عاشته المكسيك نهاية العشرينيات حينما قتلت أسرته، ومعها آلاف الأشخاص. وعلى الرغم من أنه كانت شهرته العالمية، ككاتب، إلا أنه التقط بحرفية ورؤية فنية عالية مئات الصور في ضواحي مسقط رأسه خاليسكو، هذه الصور تقدم واقعا مظلما ومثيرا للدهشة عن الحياة في المناطق الريفية في المكسيك في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات. وعن هذه التجربة، يكتب إدواردو ريفيرو في كتابه «إشراق الكتابة وفوتوغرافيا الكلمات» عن تجربة خوان رولفو قائلا: إذا كانت طريقة رولفو السردية مماثلة لصوره الفوتوغرافية، فإنها تعرفنا وتدفعنا لرؤية ما لا يرى في أغلب الأحيان، يتحدث فنه الفوتوغرافي من خلال صمت صوره، يبدو أن خوان رولفو يقول لنا من خلال كتبه وصوره: انظروا! ابصروا! هذا العالم الذي أمامنا، وهذا يمزقنا بعبء كرب وحزن الواقع الملموس. تعالوا لتكتشفوه!