أحدق في اللحظات كأنما أحدق في كتاب مصور مع تقليبي لصفحاته.. أصاب بدهشة لأن كل شيء أكثر جمالا وكمالا من الواقع.. رأيت كيف أن كل شيء قد تلاشى ولكنه مع ذلك ظل يمثل أمام نظري بوضوح لاتشوبه شائبة أنه نصف حياتي الذي حفظته ذاكرتي دون قصد مني لأجلي.. حالة من الاستنزاف اليقظ للذكريات المستعادة عندما كان العالم جميلا ونضِرا أخضر كما كان عليه يوم ولد القمر.. يوم كانت السماء تمطر قمحا ولبنا يوم كانت المياه صافية تجري بدون طين خالية من الكوليرا والكلور.. أيام حلوة كالعسل وبيضاء كالحليب كان فيها ذلك العصفور يزقزق في «كاهوكيا» فيوقظ رائحة الخبز في البيت كان يغرد ويمطرني بمئات الأسئلة الصغيرة .. كان يتقن تقليد أصوات الكثير من الحيوانات.. كان يطلب مني أن أتعرف على الأزهار والأعشاب التي كان يجمعها من «البارك» في شمال كانسس ستي ذلك البارك الذي كان يمتلىء بالمجسمات الحيوانية الضخمة والمختلفة كان يلح علي أن أصعد به لأعلى موقع من جسم الديناصور لنهبط معا وصراخ البهجة يملأ الفضاء.. كان يصر على أن أقص عليه حكاية قبل أن ينام وكانت الحكايات تبدأ حسب رغبته ويغمض نصف عينيه وأكافح كفاحا شاقا لكي أتكلم بطريقة كل بطل في القصة التي أرويها وعندما أعتقد أنه لم يعد ينصت أو أنه استغرق في النوم أتوقف على الفور عندئذ يفتح عينه من جديد ويوجه لي نظرة خبيثة ثم يرفع حاجبيه بعد ذلك أتابع حديثي من جديد عن «سنوبي» و«سكوبي» و«وبك بيرد» وحتى ينكمش ذلك الجسد الضئيل في صدري كان ينسج القصص والخرافات من كل صنف ولون حول مخلوقات وحيوانات ما أن نغادر حديقة الحيوانات في «كانسس ستي» كانت رعايته في غياب والدته تمنحني ضمان حب منفتح ودائم كانت فترات ما بعد الظهر والمساء تمر بنا رخية كنت في أحسن حالاتي الجسدية والنفسية أنجز عملي بحماس وهمة ونشاط وسرعة لأنال مكافأتي.. ومكافأتي كانت أن أقضي معه أسعد الأوقات وأبهجها.. لم تكن تضاهي تلك الأيام الرائعة والبهيجة أي شيء مثل أن تتراقص رقائق الثلج في الخارج ونجلس مكينين أنا وهو بالقرب من موقد النار نتابع هطول الثلج وحتى يتوقف لأخذه خلسة لينغمس مع الأطفال في التزلج على المنحدرات غير السحيقة أدفعه بنشوة خرساء أضحك معه بسخاء مطهر وهو يرتدي الصحن المعدني كزلاجة.. كان يحب حلوى الرز بالحليب لا من أجل الأكل فقط بل ليمارس احتفاله الهستيري عندما يدلق الطبق عنوة منه على ملابسه ووجهه ويديه.. كنت أخترع له ابتهلات سحرية لأجعله يبتلع السبانخ المهروسة.. تذكرت كيف أنه في أحد أعياد ميلاده اشتريت له دمية «سنوبي» يحرك عينيه ويمشي حملتها من المتجر إلى البيت في علبة طويلة مصنوعة من الورق المقوى الشديد المتانة وضعتها على السرير وطلبت منه أن يحزر عما في العلبة أجابني بضحكة خبيثة «سنوبي» بعد أن وضع كفه على فمه لثوانٍ وليلف بعدها عنقي بيديه الصغيرتين اللتين كان حينما يمدهما أشعر وكأن عصفورا صغيرا رابضا على يدي.. تمر كل تلك الصور المتفرقة من الحياة .. عندما كانت الأرض رحيمة بمن فوقها كومض البرق وأعود وأتذكر جمال تكشيرته التي تسبق البكاء ومساوات خطواته بخطواتي بساقيه النحيلتين عندما كنت أصحبه معي للخارج تذكرت كل ذلك المرح غير المسؤول بيننا وأنا أشاهده على الشاشة الفضية تقدمه مذيعة «الفوكس نيوز» يتحدث إليها بكل ثقة تتدلى من عنقه بطاقة تحمل اسمه وصورته ومهنته كان قلبي يقفز من الإثارة كان قلبي يرتجف كعصفور غلبه البرد القارس يرفرف في قفصه كأنما يريد أن ينط للخارج.. حالة من الغيبوبة الممتعة تأملت ذلك الطفل.. هذا الرجل الكامل بابتسامته التي تظهر أسنانه الجميلة كأسنان تمثال.. كبر الرجل قبل وقته.. قبل موعده.. تفتح قبل ربيعه ثم أضحك بعذوبة.. لم يرث ذلك الطفل عيني وفمي ومشط أصابع رجلي وحبي للموسيقى والسينما والعمل الجاد والإيجابية في التعامل مع الحياة، لقد ورث عني مشيتي ومزاجي الخاص زادت قامته.. وزاد طول لسانه أنا اليوم رجل يسرف في الابتسام يطفو كورقة فوق ماء.. يسبح كنغمة في فضاء.. ذروة السعادة قد تكون دقائق.. ثواني.. لحظات قصيرة.. وميضا عابرا.. ليس لأحدنا الحق في إطالة مداها فالزمان ترغمه الساعات على الجريان.. لكن لنا الحق.. كل الحق في الاستمتاع والتلذذ لآخر قطرة بمذاق عذوبتها.