الآيدولوجيا، في بعض التعريفات، مصطلح وصفي يقال على كل مذهب سياسي أو طائفي أو قومي يستخدم العلم والفن والدين في استقطاب الجمهور. فما هي المشكلة في استعانة تلك المذاهب بالفنون والعلوم والأديان؟! لو تدبرنا جيدا لوجدنا أن المذهبية الآيديولوجية لا تعبر عن الناس كلهم ولا عن الشعب كله.. بل عن فئة معينة. مثلا: القومية العربية تعبر عن العرب وتنفي منها غير العرب. والمذهب السياسي الفلاني يعبر عن شريحة ويستبعد أخرى، وهكذا. أما العلوم والفنون والأديان فهي للناس جميعا وليست لشريحة أو فئة دون أخرى.. فإذا قام المذهب الآيديولوجي بتوظيف العلم أو الدين في أجندته السياسية، فإنه والحال هذا يقوم بعمل خطير اجتماعيا. فالمذاهب السياسية الإسلامية تجعل الدين خادما لها بدلا من أن تكون هي خادمة للدين وللناس كلهم. وهذه المذاهب تقصر الدين عليها وتنفي الدين عن أولئك الناس الذين لا يتفقون معهم في برنامجهم السياسي. ولا يخفى عليكم مدى خطورة هذا التلاعب الآيديولوجي على السلم الاجتماعي. في أوروبا القرن التاسع عشر ومع تطور العلوم البيولوجية والسيكيولوجية ظهرت دعاوى آيديولوجية عرقية وظفت نتائج تلك العلوم توظيفا خطيرا.. فارتفعت أصوات ترى أن الإنسان الأبيض أرقى الأعراق البشرية وأنه يقف على سلم التطور. وهذا مثال على استغلال العلم آيديولوجيا. وهو كاستغلال المذاهب السياسية الدينية للدين الإسلامي. ماذا عن الفن؟ الفن بطبعه ذو لغة سلمية ورومانسية ويند عن التوظيف الآيديولوجي. فهل يمكن التلاعب به آيديولوجيا؟ للجواب أود أن أفرق بين الفن الحقيقي والفن المزيف.. والفن المزيف هو الفن الذي يحاكي النوع الأول ظاهريا لكنه في مضمونه «مؤدلج» ؛ أي يخدم شريحة معينة ويتجاهل بقية الناس. خذ مثلا قصيدة يفاخر فيه الشاعر بقومه أو مذهبه.. هذه قصيدة آيديولوجية ولا تعتبر فنا أصيلا حتى لو تحققت لها بعض الشروط الجمالية أو البلاغية. وهي فن غير أصيل؛ لأنها لم تحقق «الشرط الإنساني» . فالفن ليس فقط شكلا، بل هو محتوى، فكر. الفن الأصيل أنواع.. فهناك الموسيقى والمسرح والرسم والشعر والقصة والرقص والنحت ونحوها. مما يلاحظ أن هناك فنونا كلامية كالمسرح والغناء والقصة والشعر.. وهناك فنون صامتة كالموسيقى والرسم والنحت. والنوع الأول أكثر عرضة للاستغلال الآيديولوجي من النوع الثاني. وإذا ما تم توظيف النوع الأول آيديولوجيا فإنه يصبح فنا مزيفا.. كالقصيدة التفاخرية التي أشرنا لها. لكن.. قد يحدث أن يتم استغلال الفن الأصيل بدون أن يفقد مكانته الرفيعة. وهذا يتم من خلال الطريقة التي نتناول فيها الفنون الأصيلة بالتأويل بدون أن نعبث بالعمل الأصلي. فقد يتم تفسير لوحة الموناليزا على أنها تعبير عن جمال المرأة الأوربية وتطورها. هذا التأويل الذي قد يحصر العمل الفني في حدوده الإقليمية الضيقة لا يضر العمل الأصلي نفسه ما دام معروضا لكل البشر. إذن لدينا حالتان يتم فيهما «أدلجة» الفن. الأولى تكمن في «تأويل» الفنون الأصيلة (وقل مثل ذلك على العلوم والأديان) تأويلا آيديولوجيا ضيقا. والحالة الثانية تكمن في أن يكون الفنان نفسه مؤدلجا وهذا يضر بفنه. فإذا اعتنق شاعر مذهبا سياسيا معينا وجعل شعره يخدم هذا المذهب فقد قضى بذلك على فنه. فالفن إنساني النزعة وهو مفتوح للتذوق العام. ولكم أن تتصوروا كم تم توظيف الشعر في ثقافتنا بهذه الصورة البشعة.. فكثير من الشعر العربي قديما وحديثا ينتمي للشعر المؤدلج. بل إن هناك فنونا من الشعر قامت على هذا الأساس كالفخر والمدح والهجاء. ورغم جماليات شعرنا البلاغية إلا أن كثيرا منه قد خلا من الحس الإنساني الواسع والعميق.