العقلانية مذهب فكري عام ولكنها ليست عقيدة دينية أو نظرية سياسية. صحيح أن هناك نظريات متعددة تحمل اسم العقلانية لكن العقلانية التي أقصدها في هذا المقال هي إطار فكري عام يحاول أن ينظم الأفكار والمعارف بحيث لا يحدث بينها تناقض وبحيث لا تنتهك القوانين الطبيعية والمنطقية. فما طبيعة هذا الإطار الفكري؟ ما أقصده بالعقلانية ليست تلك النظرية التي تقابل التجريبية أو المادية.. بل العقلانية التي أريد هي التي تقابل اللاعقلانية عموما. ومن هذا المنطلق فإن العقلانية العلمية والتجريبية والمنطقية كلها تندرج في نوع واحد. ويتبين من ذلك أن العقلانية هي كل منتجات «العقل» البشري. والعقل هنا ملكة مختلفة عن ملكة الخيال التي لها دور كبير في الفنون. والخيال لا يضاد العقل. ولكن لكل ملكة وظيفتها.. وكلاهما يستقبلان عبر الحواس موضوعات وانطباعات متفرقة .. وحينما يعالج العقل تلك المحسوسات فإنه ينتج منها علما أو فلسفة. وحينما يتولى الخيال معالجة تلك المعطيات الحسية فإنه ينتج منها فنا. وقد يكون الخيال غير فني.. ففي حالات الهلوسة والخرافة يلعب الخيال دورا كبيرا ولكنه ليس فنيا. وبما أن الخيال هو مصدر الأساطير والفنون معا فإننا نجد أن هناك تقاربا بين الفن والخرافة. عمليا.. العقل حينما يعمل فإنه لا يستغني عن الخيال والخيال بدوره لا يخلو من عقل. العقل بوصفه أساس العقلانية ينطوي على الأنشطة التالية: التركيب و التحليل والبرهان. وأنشطة العقل لا تنصب فقط على تحليل العبارات اللغوية أو دراسة الأفكار المجردة .. فالعقل يشتغل في أغلب تفاصيل الحياة اليومية. ومن ثم فالتجربة العلمية ضرب من النتاج العقلي؛ فالعالم في مختبره لا يتوقف عن التفكير لحظة..؛ فعقله يرتب المشاهد ويستنبط القوانين. والقوانين الطبيعية ليست حسية كما يتبادر إلى الأذهان بل هي تركيبات عقلية مستخلصة من معطيات حسية. ولذا فمن الخطأ إقامة تضاد بين العقل والتجربة أو بين العقلانية والتجريبية.. فالعقلانية هي الإطار العام لكل المعارف البشرية. والعقل إذ يعمل فإنه إما أن يدرس الظاهرة بدون المحتوى الحسي لها فينتج لنا المنطق والرياضيات النظرية والنحو النظري.. وقد يدرس الظاهرة وهي تتجلى بكامل زيها الحسي وينتج من ذلك العلم الطبيعي والتجريبي عامة. وإذا عمل العقل على المحسوس فقط دون نظر في القوانين الكلية التي تنظم الواقع الحسي فإن الناتج هو العلم الشعبي أو الحس المشترك وهو الحس البسيط لدى الإنسان حينما يتحرر من الدقة العقلية. مثلا: دوران الشمس حول الأرض هو ما يقرره الحس المشترك. أما العلم فيقرر العكس.. وهو أن الأرض تدور حول الشمس. والحس المشترك ليس مخطئا دائما بل ينطوي على كثير من القضايا السليمة. ولكن العلم الحقيقي كما يرى غاستون باشلار لا يبدأ إلا بالتحرر من الحس المشترك. أهم مبادئ العقل بالمعنى الواسع الذي نقصده هنا هو عدم التناقض، والسببية، والتجربة. عدم التناقض مبدأ واضح.. وكذا السببية. وأما التجربة فهناك من يجعلها مبدأ غير عقلاني ويصر على كونها تبدأ في الحس وتنتهي فيه!. وهذا خطأ .. فالتجربة ليست مجرد الشواش الحسي الذي يأتي إلينا من الأشياء.. بل هي التنظيم والترتيب العقلي لذاك الشواش وهذه هي الفكرة التي أقام عليها إيمانويل كانط فلسفته. وهي فكرة جديرة بالاهتمام. وقوانين العالم التجريبي تختلف نوعا ما عن قوانين المنطق والعقل المجرد لكن تلك القوانين لا تتناقض. والتناقض يحيلنا فورا إلى مناقشة مفهومي الممكن والمستحيل وسوف نعالجهما في المقال القادم.