راودتني غير مرة، فكرة الدخول إلى «سجن ذهبان» حيث الموقوفون في قضايا الإرهاب، لاسيما أن هؤلاء السجناء ظلوا بعيدين عن الأعين، ما فتح الباب واسعا أمام تكهنات وروايات وشائعات صورت هذا السجن وكأنه معتقل مظلم تمارس فيه شتى أنواع التعذيب التي تبدأ بالصعق الكهربائي ونزع الأظافر والضرب لانتزاع الاعترافات تحت وطأة العنف المتجرد من كل المبادئ الإنسانية منها السجن في زنزانة لا تتجاوز مساحتها مترين مربعين. وهذا أعطى صورة ذهنية معينة لسجن قمعي في «ذهبان». تلك الصورة التي شاعت في المجتمع عززتها مواقع عملت على الترويج لها لأهداف خاصة، فقبل زهاء العامين، أشاع موقع ويكيليكس العربية أنباء عن تعذيب موقوفين في سجن ذهبان بجدة، وروى قصصا من نسج خيال أصحابها عن ما أسموه بالقمع والتسلط والوحشية، ذلك الموقع الذي يتخذ شعار «ننقل لك الحدث بالكلمة حتى تكتمل لديك الصورة» أيضا كان من بين عوامل الفضول التي تحركت بداخلي مما دعتني للسعي إلى زيارة السجن حيث قضيت بين ردهاته حوالى (10) ساعات لمعرفة الحقيقة كما هي بعيدا عن كل المؤثرات. وللحقيقة فإن الأمر لم يكن سهلا، إذ لم يكن دخول سجون أي دولة ممكنا إلا بعد تجاوز حواجز، قفزنا فوقها، وكنت مع ذلك أتذكر كلمات همس لي بها بعض زملائي الصحافيين أني «أحلم فقط» لأنه لا يمكن التسرب إلى ما وراء القضبان والخروج منها بسهولة، لكنني قررت قرع الأبواب لكشف ما يدار هناك وهنا بدأت رحلة التشويق لكشف الخفايا والأسرار والوقوف على الحقيقة ونقلها بكل أمانة وموضوعية. البوصلة صوب ذهبان كان الصباح مثيرا.. عندما طلبت من زميلي رئيس قسم التصوير مديني عسيري مرافقتي في جولة لم أكشف له النقاب عنها، وتوجهنا سويا صوب سجن ذهبان على طريق جدة - المدينةالمنورة، كنت في الطريق أحدث زميلي بهمس يتغشاه قلق من إمكانية ولوج السجن الذي لم يسبق لي رؤيته إلا عن بعد، يسألني المصور كيف يمكن لنا التجول بكل حرية هناك، وهل بإمكانك أن تطرح كل التساؤلات الساخنة، هل أنت متأكد من الوصول إلى ما نريد فما أسمعه أنه هذا الموقع خط أحمر لا يمكن للصحافة دخوله بسهولة، التفت إليه وأنا لا أملك الإجابة الحاسمة وقلت له: «ربما» وعندما وصلنا، وقفنا أمام بوابة السجن ومررنا عبر بوابة للتفتيش حيث قام حراس السجن بتمرير أجهزة أمنية معتادة في كل مكان من هذا العالم حول السيارة، لم تمض سوى بضع ثوان حتى أعطاني الإشارة بالدخول وطلب مني اتباع سيارة دورية أمنية كانت تتجاوز حواجز عدة وضعت كاحترازات أمنية تفتح أمامنا بشكل تلقائي في ممر حلزوني لمسافة قاربت نحو 300 متر لنصبح أمام باحة السجن الرئيسة. دخول سجن ذهبان لم تمض سوى ثوان حتى دخلنا قلب السجن، وبدأنا في التعرف عليه بكل مكوناته حيث تحركنا في البداية صوب مبنى السجن الرسمي، كانت أمامنا مكاتب خصصت لهيئة التحقيق والادعاء العام، هيئة حقوق الإنسان، جمعية حقوق الإنسان ومكاتب خصصت للمحققين، على كل مكتب لوحة توضح طبيعة وظيفة المكتب والجهة التابع لها تمكنهم من أداء مهامهم ومراقبة أعمال السجن كجهات محايدة، يترك لهم حرية العمل دون تقاطع مع ما يريدونه. لا سجناء بل نزلاء خرجنا من ذلك المبنى الذي جهز بأحدث التقنيات وأجمل الأثاث وتوجهنا صوب المبنى الآخر المخصص للخدمات المساندة والاستقبالات الخاصة بالموقوفين حيث علمنا أن به ما يقارب 5 آلاف شخص ما بين رجال أمن وحراس وعاملين، هذه المنشاة الضخمة أقيمت لتكون أنموذجا لتكامل الخدمات وتوفير ما يحتاجه النزلاء، فالسجين بمجرد دخوله بوابة السجن يستبدل مسمى «سجين» ل«نزيل» ويرتدي ثوبا أزرق موحدا لكافة النزلاء، وليس هناك تفرقة بينهم بل مساواة في كافة الحقوق. كان أول مكان نقف عليه وندخله في السجن مخصصا للزيارات الفردية والعائلية للنزيل حيث دخلنا قسم الرجال، وهو مكون من صالة استقبال رئيسية جهزت بكافة أنواع الضيافة من عصيرات ومياه وبرادات شاي وقهوة عربية، فالصالة التي بها مقاعد جلوس مريحة، وجلسة عربية فارهة ومصلى يقول عنها مسؤول بارز في السجن: «هذا قسم الرجال حيث يستقبل هنا الراغبون من ذوي الموقوف في الزيارة، فبعد إجراءات التفتيش المعتادة يدخلون إلى هنا للانتظار ويتمتعون بكافة الخدمات قبل الانتقال إلى غرف الزيارة وهي غرف مجاورة يلتقون فيها بالنزيل بعد الضيافة». اتجهنا بعد شرح مفصل من مقر الاستقبال إلى غرف الزيارة الفردية وهي غرف مجهزة بكافة أنواع الضيافة أيضا حيث يجلس ذوو النزيل بها على كراسي متقابلة انتظارا للنزيل الذي يدخل من باب آخر ليلتقي بهم ومساحة تلك الغرفة تقارب 16 مترا مربعا في نهايتها كرسي مخصص لمراقب الزيارة وهو رجل أمن يجلس في نهاية الغرفة وقت الزيارة. هذا القسم كان مخصصا للرجال فقط فيما انتقلنا بعدها للقسم الآخر وهو المخصص للزيارات العائلية حيث تمر النساء في إجراءات تفتيش خاصة من قبل طاقم نسائي من موظفات السجن وهنا يؤكد المسؤول الأمني ذاته: «نحرص تماما على خصوصية النزيل حيث تتولى عمليات التفتيش للزيارات العائلية نساء في القسم المخصص وتلك هي غير المواقع المخصصة للخلوات الشرعية، وقت الزيارة المسموح به من ساعة إلى ثلاث ساعات ومع ذلك فإننا نقدر ظروف بعض الموقوفين ونتيح لهم مزيدا من الوقت». مقر الخلوات الشرعية غادرنا موقع الاستقبال الزيارات ودلفنا صوب موقع الزيارات الخاصة أو ما يعرف بالخلوات الشرعية، وهو قسم مستقل فيه مواقع تزيد على 30 صالونا تعرف بالخلوات تتسم بالخصوصية والسرية، دخلنا به لنرى الغرف الفندقية حيث خصصت أماكن الخلوة بما يضمن الخصوصية المطلقة للنزيل مع أهله، غرفة نوم بسرير مزدوج نظيفة الفرش بها كامل الأدوات الصحية الفندقية المغلفة ذات الاستخدام الواحد من مناشف وما شابه ذلك فيما جهزت تلك الغرفة بشاشات تلفزيونية، ثلاجة ملئت بكافة أنواع المأكولات والمشروبات وبالغرفة دورة مياه. يقول المسؤول الأمني: «هذه الغرف يتاح للنزيل الوقت الكافي للجلوس بكل أريحية مع زوجته لممارسة حقوقهم الشرعية بعيدا عن الإزعاج». إحصائيات رسمية سألت مباشرة: ما حجم الزيارات هنا وهل فعلا تمر كما يشاع بإجراءات بيروقراطية تحول في بعض الأحيان دون التقاء النزيل بأهله أو أقاربه؟، فأجاب المسؤول الأمني باسما: «بالعكس تماما، يسمح بالزيارات في وقت شريطة التنسيق المسبق وموافقة النزيل على الزيارة والإحصائيات الرسمية لدينا موثقة حيث على سبيل المثال وخلال عام 1435ه أتحنا نحو 4604 زيارات عامة وسمحنا ب2100 خلوة شرعية للنزلاء واستقبلنا نحو 24676 زائرا من ذوي الموقوفين فيما كانت هناك زيارات استثنائية عامة لظروف خاصة غير المعتادة وسمح بنحو 869 زيارة عامة استثنائية وكذلك 213 زيارة خلوة استثنائية نزولا عند رغبة النزيل أو أهله، وكل هذه الزيارات تتم على نفقة وزارة الداخلية حيث نؤمن خدمات التذاكر والسفر وتأمين شقق مفروشة لأسرة النزيل القادمين من خارج جدة فضلا عن السماح بالاتصالات الهاتفية والمرئية الخاصة حيث سمح خلال العام الماضي بنحو 810 اتصالات استثنائية للنزلاء بذويهم» كما يخصص مكافأة شهرية أشبه براتب ثابت لكل سجين تتراوح بين 2000 - 3000. مميزات مالية واستثنائية غادرنا قسم الزيارات الفردية والعائلية ليقف مسؤول أمني رافقنا ونحن نمشي في الممرات، مضيفا بعض المعلومات بقوله: «بعض الموقوفين هنا يتمتعون بما يعرف بالإفراج المؤقت ممن لا يشكلون خطرا على الأمن العام لعدة أيام بالكفالة في الحالات الخاصة كحضور زواج أحد أقربائه مع إعطائه مبلغ 10 آلاف ريال لتقديمها كهدية، أو في حالة الوفاة، أو عقد قرانه أو زواجه وقضاء عدة أيام مع زوجته وقد سمح خلال عام 1435 ه فقط ل51 إرهابيا بذلك». وهنا تقاطعت معه للتساؤل حول كيفية ضمان عودته للسجن وعدم هروبه فأجاب: «المحكومون من النزلاء يتمتعون بذلك بعد أخذ الكفالة الضامنة بذلك من ذويهم ويمنح كل مطلق سراح مؤقتا ما يعرف بالسوار الإلكتروني ويمنح مدة 24 ساعة ولم تسجل أي حالات هروب أو تأخر في ذلك والأسوار تتيح له التحرك في مساحة جغرافية محددة لو حاول الخروج عنها يكشف أمره وعادة ما يستخدم في حالة العزاء حيث تم التعامل مثلا مع 51 نزيلا خرجوا من التوقيف بسبب وفاة أقاربهم من الدرجة الأولى».