لست متأكدا من أن اللون الأحمر لا يزال لونا يليق بالحب ويناسب المحبين بعد أن تلطخ بدم الأبرياء والإجرام والكراهية والسبي والتشريد والتدمير بحروب عبثية تفتك بالإنسان وتساوي كل ما أنجزته البشرية بالأرض ليكون الإنسان في هذا العصر كائنا بلا تاريخ وبلا قيم وبلا أخلاق. فاللون الأحمر الذي يغطي عواصم العالم ومدنه ويمتد لساحاته وشاشات التلفزة فتتسع مساحاته ما بين حفلات دم الأبرياء المسفوح بحروب عبثية وبين باقات الورود الحمراء التي يتم تهاديها بعيد الحب. لقد ضاقت العولمة بكثرة الألوان ودلالاتها، فلم يعد هناك متسع لحضارات تمتد جذورها في أعماق التاريخ وعلى امتداد الجغرافيا فأرادت أن تختزل اللونين الأحمرين بلون واحد يصب ويتدفق في شرايين كائنات جديدة تم تشكيلها تناسب العصر الجديد والذي يتغير فيه كل شيء بسرعة فائقة، إنها العولمة كلما اقتلعت حضارة أقامت على أنقاضها حظيرة. حظائر تتناسخ وتتكاثر على أنقاض كل حضارة يتم تدميرها. خلافا لكل ما تعلمناه عن صراع الحضارات عبر التاريخ، فكل حضارة تسود حتى تأتي على أنقاضها حضارة أقوى منها. إنه صراع جديد، صراع من نوع آخر. إنه عصر التقنية وإنه نسل جديد من الآلات بصور كائنات تمتزج بعصر التقنية، يبدو العالم لهم مختلفا عن العالم الذي نعيشه ونعرفه، عالم لا يقيم حدودا سياسية أو طبيعية يمتد حيث يرون مما وراء المحيط الأطلسي إلى لندن وباريس مرورا بدمشق وبغداد وطرابلس وباكستان. عالم امتزجت به خيالات المؤرخين وإبداعات المخرجين وكتاب السيناريو في هوليوود وحرفية برامج العلاقات العامة وهوية هذه الكائنات. كائنات تلك الآلات تعتنق الدم والدولار، وتمزج مزجا شديدا بين إنسان الكهف وعبقرية هوليوود في لوحات تتماهى مع صناعة علاقات عامة في تثبيت ألوانها وطقوسها ومراسمها وعباراتها. لا أعرف ما إذا كان صموئيل هنتنغتون ونظرية صدام الحضارات كانت تتنبأ بهذا النوع من الصراعات، أم أن تلك النظرية كانت ملهمة للمخططين فتجاوزت عبقريتهم الصراع الواقعي إلى الصراع ما بعد الواقعي أو ربما تسريع وتيرة صراع الحضارات حتى باختلاق الصراع تارة أو زراعة تلك الطوائف والمذاهب والإثنيات أو صناعتها. العقل الغربي الصناعي الذي يتجلى في ثقافة التجارب والمختبرات، هو يقوم باختبار مفهوم الإدارة بالأزمات من ناحية ويطبق نموذج صراع الحضارات الذي تنبأ به صموئيل هنتغتون وربما أن التطبيق نجح أكثر مما توقع المخططون، خاصة مع المعطى التقني الذي أسقط جدران الأزمنة والأمكنة فمهد كل ذلك الطريق للدخول في نوع آخر من الصراعات، وهو صراع حضارات الأمكنة مع حضارات الأزمنة. خاصة في دول تتسم بهشاشة أنظمتها السياسية والاقتصادية، خاصة في أفريقيا والدول العربية، منذ استقلال تلك الدول في منتصف القرن الماضي، ولأسباب تعود فيما أظن إما لقوة ومتانة الأساس القبائلي والمذهبي في مقاومة مشروع الدولة الحديثة، وإما لضعف وهشاشة النظم التي تدير هذه الدول وعجزها عن تحقيق الحد الأدنى من مشاركة شعوبها، وأما الاحتمال الثالث وهو الأرجح في ظني هو أن الدول المستعمرة أوجدت قنابل حدودية موقوتة على حدود تلك الدول بحيث تكون قابلة للانفجار مع أي محاولة جادة للتقارب بين تلك الشعوب مع نمو نضجها السياسي وتنامي وعيها الوطني لتبقى تلك الدول مرتبطة دائما بالحبل السري للمستعمر القديم ومن ثم الجديد، في كل قضية اقتصادية أو سياسية أو عسكرية. لهذا تتسارع وتيرة إعادة إنتاج إنسان العولمة ككائن بلا قيم وبلا ذاكرة وبلا ماضي فالعولمة بمعطياتها الجديدة تعيد تشكيل الكائنات البشرية الحضارة الحضارات إلى كائنات حظائر. إنها مفارقة الدلالات.. حضارتان أو حظيرتان تتقابلان على ضفتي اقتصاد يتهاوى وأنظمة تموج، ربما أن السباق على الأخير على آخر موارد الأرض قبل أن ينجو الناجون بقوارب المهاجرين إلى كواكب أخرى أكثر رخاء وأمنا لينفذ من كان لديه سلطان. أما على الأرض فليس لأحدهما غنى عن الآخر، فكثيرا ما يتبادلان الأدوار ويتبادلان القبعات، رغم تنافسهما العلني وقتالهما الشرس، لكنهما يطبقان الإدارة بالأزمات بحرفية عالية ويتبنيان صراع الحضارات أو صراع الحظائر بمنهجية دقيقة.